يروى جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: بينما كنا جلوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ نظر إلى السماء، فقال ” هَذَا أَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يُرْفَعَ”..

فقال رجل من الأنصار وهو (زياد بن لبيد): يرفع عنا يا رسول الله وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن كنتُ لأحسبُك من أفقهِ أهلِ المدينةِ ” وذكر له ” ضلالةَ اليهودِ والنصارى على ما في أيديهم من كتابِ اللهِ “..

ثم التقى جبير بن نفير بشداد بن أوس فأخبره بهذا الحديث عن عوف بن مالك، فقال شداد: صدق عوف، ثم قال: “هل تدري ما رفع العلم؟..إنه ذهاب أوعيته.. وهل تدري أي العلم رفع؟ هو الخشوع حتى لا يرى خاشعًا..” (ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 152-153).

إن الانحطاط الديني الذي يصيب طائفة أمينة على كتاب الله لا يعني زوال كل مظاهر التمسك بالدين أو عدم اهتمام الناس بالقضايا الدينية..إن شيئًا كهذا لم يحدث في التاريخ..

إن الانحطاط الديني يعني بقاء الدين في مستوى القسوة القلبية، وضياعه في مستوى الخشوع يقول تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:16)..

إن دين “الخشوع” موطنه القلب، أم دين “القسوة” فلا يبرح الأعضاء والجوارح الخارجية فلا يكون جزءًا من الشعور، حتى يُلهب وجدان المرء ويحكم حياته الداخلية والخارجية.

إن الفاهم لآي الذكر الحكيم و المتدبر لمعانيها؛ يظهر له مقاصد الآيات ما يعمل بها على إصلاح نفسه وتزكيتها، وتقويم سلوك ذاته، وتصحيح ما اعوَّجَ منها؛ ذلك أنه مطالب بالتزام ما فَهِمْ ، وتطبيق ما عَقِلْ ، ناهيك عن التأدب بما ظهر له من الآداب ، والتهذب بما لاح له من الأخلاق.

إن هذا الانحطاط يصيب حَمَلة كتاب الله حين يحولون الدين الإلهي إلى ” فن “. و”الفن” هو تعيين حقيقة ما بلغه الميزان والمكيال. وبما أن الميزان والمكيال لا يستطيعان تناول الحقائق القلبية والوجدانية الداخلية السامية، فهما يتناولان جوانب الحقيقة الظاهرية فحسب، وحين تزدهر فنون هذا النوع في طائفة ما يزدهر بها خبراء بحوث الظاهر وينعدم بها خبراء الوجدان الداخلي..

والعبادة التي هي خشوع القلب ولهفته نحو الخالق تصبح عملاً ظاهريًا في المكيال الفقهي..والروحانية، التي هي العيش على مستوى استحضار الرب واليوم الآخر، تصبح دربًا يجتازه المرء بالتمارين السلوكية تحت إشراف المرشدين..والدعوة إلى رسالة الحق ، التي هي غاية النصح للعباد، تظهر في صورة الخطب والمناظرات والحركات الاحتجاجية وحتى في صورة الفوضى والتخريب..

وعندما يصل حملة كتاب الله إلى مستوى ” القسوة” فلا سبيل لإعادتهم إلى مستوى ” الخشوع” إلا بتطهير دين الله من إضافات البشر.. لأن هذه الإضافات هي التي ساعدت هذا الفكر الذي أدى إلى ظهور القسوى القلبية..إن التدين الحقيقي ينبع من دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس من دين يضعه البشر.