احترام الرأي والاختلاف معضلة وإشكالية زمانية كانت ولا تزال ترافق البشر في مشروع بناء الحضارة الإنسانية، فالكثير من المشاكل والخلافات والأزمات والحروب كان أحد أسبابها عدم وجود ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر.  ورغم ان عملية الإثراء الثقافي والعلمي ومقياس تطور المجتمعات والشعوب، تقوم على ثقافة اختلاف الرأي، إلا أن انغلاق العقول جعل من الاختلاف خلافاً أضعف المجتمع.

 

يرى الباحث الأكاديمي العراقي المختص بالفلسفة الإسلامية سامي محمود إبراهيم أن الدين الإسلامي يعمل بثقافة الاختلاف وأن الإسلام يشير الى أهمية احترام الرأي الآخر للتوصل إلى حقيقة المشروع الإنساني في الأرض، إلا أن انغلاق العقول جعل من الاختلاف خلافاً أضعف المجتمع، محاولاً الإجابة على السؤال: لماذا لا تملك أوساط مسلمة هذه الثقافة؟ ولماذا لا تهتم بها؟

احترام الرأي والاختلاف في الإسلام

ديننا الإسلامي عمل بهذه الثقافة، فالإسلام له دور كبير في تعزيزها، وهذا بين في قوله تعالى: ” وشاورهم في الأمر”، في إشارة الى أهمية احترام الرأي والاختلاف للتوصل إلى حقيقة المشروع الإنساني في الأرض.

لكن السؤال هو: لماذا لا نملك هذه الثقافة ؟ ولماذا لا نهتم بها؟

في الحقيقة هناك سببان: الأول الموروث الاجتماعي السلبي، مثل بعض العادات والتقاليد العصبية العشائرية. والثاني عدم وجود توجيه وإرشاد ينمي هذه الثقافة في العملية التربوية وكذا التعليمية، كما لا يتم توجيه وسائل الإعلام لنشر هذه الثقافة وتعزيزها من خلال البرامج والطروحات، واستيراد أفكار وتجارب تفعيل هذه الثقافة من الدول الأخرى، إضافة إلى تقديم الندوات والمؤتمرات وورش التوعية والحلقات الحوارية وإعطاء الفرصة للآخر وتعلمه كيفية السيطرة على انفعالاته، ليتغلب على الموروث الاجتماعي السلبي، فتنمية هذه الثقافة تحتاج إلى عمل يستمر سنوات يرافق الأجيال في كل مستوى من دراستهم وحياتهم بل حتى على مستوى وجودهم .

ويرى سامي محمود المختص في الفلسفة الإسلامية أن ثقافة احترام الرأي والاختلاف تبدأ من الأسفل إلى الأعلى، من العائلة والمدرسة إلى أعلى الهرم. من هنا تبدأ مرحلة التغيير، حيث تنتشر ثقافة احترام الرأي والاختلاف من العائلة والمدرسة إلى أعلى الهرم. عندها إذا شعر المواطن بأن الحكومة تدعم هذه الثقافة يزداد إيمانه وعمله بها، ليحل التسامح والترابط بين مكونات المجتمع.

من ناحية أخرى نجد أن الانطلاق نحو الخروج من أزماتنا وبناء وتدعيم البديل الحضاري العالمي تكمن في فهم الحالة الراهنة للإنسانية جمعاء، بحيث ندرس مآسيها وأزماتها التي تزداد كثافة وظلاما عبر الزمن. وهذا الذي أدى إلى تقاطعات وخلافات خطيرة سرعان ما تحولت إلى صراعات فكرية مذهبية وطائفية دينية بين حملة الأديان المختلفة، وانقسامات داخل الذين يدينون بالدين الواحد، وانشطارات داخل الفرق والطوائف.

ولذلك صار واجب على المفكرين والباحثين والعلماء من المسلمين وغيرهم، الاهتمام بموضوع التعايش والتقارب، نظرا لتعلق الموضوع بحياة الناس وتعاملاتهم في شتى جوانب الحياة، ونظرا لكثرة الشبهات المثارة حول الموضوع نتيجة للظرفية الخاصة والحرجة التي تمر بها المجتمعات العربية والغربية على حد سواء.

وهذا بدوره يستوجب التأكيد على أن الأصل الشرعي في العلاقات الإنسانية السلم لا الحرب،  والرفق لا العنف، واللين لا الشدة، والرقة لا الغلظة، لأن الإسلام دين ينبعث عن مفهوم إلهي كوني، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً داعِياً، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِياً. لهذا ليس التعايش أمر صعب إذا ما تصرفنا بمنطق العقل والدين ونظرنا الى إنسانيتنا وزرعنا الحب في نفوسنا، عندها سنجد مجالا واسعا للعيش والتعايش بسلام.على الرغم من أن الآلية الثقافية الغربية المسيسة والمؤدلجة إلى تخريب وإزاحة قيم الآخر بتضخيم سلبياته ونواقصه عمدا، ومنها إقصاء الدين ورموزه وقيمه ومعانيه من الحياة.

زيف أسطورة “صراع الحضارات”

على صعيد آخر، يرى مفكرون آخرون أن علاقة العالم الإسلامي بالحضارة الأوروبية الأمريكية، تطغى عليها سردية صراع الإيديولوجيات والثقافات. فسردية “صراع الحضارات” أسطورة راسخة في الخطاب الثقافي، لكنها مستندة على ثنائيات زائفة لم تنجح في تهشيمها حتى العولمة وتكنولوجيا الاتصالات. والأطروحة الأكثر دواماً هي تنافر الشرق والغرب وتفوق حضارة أحدهما على الأخرى.

يقول الباحث محمد وافي عن سبب سقوط فرضية القطبية الأزلية بين الإسلام والغرب، أن الرئيس والمفكر البوسني علي عزت بيغوفيتش في عمله المؤثر “الإسلام بين الشرق والغرب”، قام بعمل رائع عبر استكشاف الثنائية القطبية للإسلام، معرّفاً الإسلام بوصفه توليفة للحضارة والثقافة، لدوافع الإنسان الحيوانية والأخلاقية، للجسد والروح، للحقيقي والسامي – وللغرب العلمي والفكري والشرق الديني والفني.

وقد شهدنا تبدّد الانقسامات التي تحدّث عنها بيغوفيتش حين سادت الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية فوق “الإيديولوجيات الأقل شأناً”، مغيرة النظرة إلى الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وقد أُشِيد بفرانسيس فوكوياما بوصفه الفيلسوف الذي صوّر روح العصر، وهو الذي جادل بأن الانتشار العالمي للديمقراطيات الليبرالية، ناهيك عن أسلوب حياة ورأسمالية السوق الحرة الغربية، قد يكون مؤشرا على نقطة نهاية التطور الاجتماعي الثقافي للإنسانية، وقد يصبح الشكل الأخير لحكومة إنسانية.

ومن ثم أتى الإيديولوجيون الذين لطالما كرروا واشتكوا من أن الإسلام يحل محل الشيوعية بوصفه المنافس اللدود لليبرالية والرأسمالية والديمقراطية وأيٍّ كان ما يسانده الغرب.

وقد خمّن صامويل هنتنغتون، الذي يُسوَّق على أنه المخلِّص المنتظَر لهذا النوع الجديد من النزاع الذي يركّز على الهوية الثقافية، أن الاختلافات الثقافية والإيديولوجية المتجذرة عميقاً ستسيطر على السياسات والعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. فيما أعاد المفكرون النيو ليبراليون “الجدد” الذين يشكل هنتنغتون مصدر إلهامهم اختراع المغالطات والأساطير القديمة، التي يعود تاريخها إلى الحروب الصليبية.

صراع الحضارات…نظرية خاطئة تقوي شوكة أعداء الإسلام

ويفند الصحفي نيكولاس ريشتر الأطروحة القائلة بأن “الصراع بين الحضارات هو سبب الانقسام بين الشرق والغرب” التي أبرزها هانتينغتون في نظريته التي أطلقها قبل عشرين عاماً وسرعان ما أصبحت مرجعاً كلاسيكياً يستغله الشعبويون الغربيون حتى اليوم للتحريض ضد المسلمين. ويرى ريشتر أن الصراع بالأحرى داخل الحضارات وليس بين الحضارات. ويؤكد أن اليوم بعد عشرين عاماً علينا أن نعتبر أن نظرية “صدام الحضارات” قد أثبتت فشلها على نحو نهائي. كانت النظرية ترتكز في عام 1993 على اعتقادات مشكوك فيها، أما اليوم فإن الزمن قد تجاوزها بمراحل. أفكار هانتينغتون وليدة القرن العشرين لأنها تقسم العالم إلى معسكرات: الحضارة الغربية (أوروبا والولايات المتحدة) والحضارة الإسلامية والكونفشيوسية والأمريكية اللاتينية، إلى آخر هذا التقسيم.

ويقول ريشتر أن توقعات هانتينغتون ربما كانت صحيحة فيما يتعلق ببقاء الدين مصدراً للشكوك والريبة والكراهية والعنف. فما زال عديد من الأوروبيين لديهم الشعور بأن تركيا “مختلفة” إلى حد لا يمكن معه أن تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي. أما في أماكن أخرى، وخاصة في الدول ذات الشعوب الفتية، فستظل العقيدة لفترة طويلة محرضاً على العنف كما أن الإرهاب باسم الله لن يختفي. غير أن هانتينغتون رسم حدوداً خاطئة للصراعات. صحيح أن أسامة بن لادن يدعي أنه المنتقم لكافة المسلمين، لكنه لم يقم قط بصهر المسلمين، من المغرب حتى أندونيسيا، ليصبحوا كتلة واحدة ناهيك عن أن يكون قد شكّلهم ليكوّنوا قوة جيواستراتيجية.

وخلافاً لما يصوره هانتينغتون فليس من اللازم أن يتم تعريف الحضارة عن طريق الدين. في مدن العالم تنمو طبقة وسطى معتدلة أو غير متدينة على الإطلاق، طبقة تهتم بالحصول على الوظيفة والتعليم والرخاء. منذ فترة طويلة تنتشر على اليوتيوب ثقافة تسلية خالية من الدين، وكما نرى مثلاً في أغنية “غانغنم ستايل” Gangnam Style لمغني الراب الكوري الجنوبي ساي PSY والتي انتشرت كالفيروس، وهي الأغنية التي تمزج بين الثقافتين الأمريكية والكورية. الثقافة ليست حصناً، والحضارة ليست رابطة الدم، كما أن الوطن من الممكن أن يكون عبارة عن مجموعة على شبكة الإنترنت.

فِرَق إبراهيمية حوارية

وفي مقابل ذلك يسعى مفكرون آخرون إلى إلى البحث بمشقة عن سبل التفاهم بين المؤمنين، من خلال الحوار بين بين الإسلام واليهودية والمسيحية، وبوسائل أخرى يعتبر مشروع “الفرق الإبراهيمية” إحداها”، وهي فكرة تقوم على قاعدة أن “جد الأنبياء إبراهيم قدوة لمعتنقي الإسلام واليهودية والمسيحية”.

تم إطلاق مشروع “الفِرَق الإبراهيمية” في المانيا بهدف تحسين التعايش بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، وقد بات يتم تطبيقه في عدة دول في الشرق الاوسط منها كمصر والمغرب وإسرائيل، وهذا في الوقت الذي يتقدم فيه الحوار بين الأديان بصعوبة وعناء.

وتقول الكاتبة الألمانية كلاوديا مينده أن الحوار بين الأديان غالبا ما يعاني من حقيقة أنَّ الفقهاء واللاهوتيين والعلماء يبقون منغلقين فيما بينهم. غير أنَّ هذا الأمر مختلف لدى الفرق الإبراهيمية. إذ إنَّ هذه المجموعات، التي تتكوَّن كلُّ واحدة منها من مسيحي ومسلم ويهودي، تذهب مباشرة إلى القاعدة، مثلًا إلى المدارس أو إلى الفعاليات المخصَّصة للجميع.

وقد جاءت فكرة “الفرق الإبراهيمية” من ألمانيا، حيث أسَّسها القسيس البروتستانتي السابق يورغن ميكش بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. يُقدِّم أفراد هذه الفرق معلومات حول أوجه التشابه والاختلاف في معتقدات كلّ منهم، ويعملون على إزالة الأحكام المسبقة ويطرحون أسئلة على أنفسهم. يستند هذا العمل الحواري بين الأديان إلى “جدّ الأنبياء” إبراهيم عليه السلام كقدوة للمؤمنين معتنقي الديانات التوحيدية الثلاث. وقد قال أحد المشاركين في هذا المشروع: “فهمت الآن أنَّه يوجد في كلّ دين أشخاص يراهنون على التفاهم ويريدون التعايش السلمي”.

ويبدو أنه بعد نجاح هذه المبادرة في ألمانيا، يحاول المبادرون توسيع عمل مشروعهم هذا ليشمل بعض دول البحر المتوسط، ويتم دعم هذا العمل من قِبَل مؤسَّسة روبرت بوش ومؤسَّسة خبز للعالم ومؤسَّسة أليانتس للثقافة.

ويهدف الحوار إلى المساهمة في زيادة التفاهم في منطقة تزيد فيها النزاعات الدينية من حدة التوتُّرات القائمة. ومع ذلك فإنَّ الوضع بين الأديان والطوائف مختلف في كلِّ بلد من هذه البلدان، التي تشترك على الرغم من ذلك في حقيقة أنَّ اللقاءات بين الأديان على مستوى القاعدة الجماهيرية هناك تعتبر بمثابة أرض جديدة.