غرسَ النبي الكريم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)  في نفوس أصحابه المنهج الرَّبَّانيَّ، وما يحمله من مفاهيم، وقيم، وعقائد وتصوُّراتٍ صحيحةٍ عن الله، والإنسان، والكون، والحياة، والجنَّة، والنَّار، والقضاء، والقدر، وكان الصَّحابة رضي الله عنهم يتأثَّرون بمنهجه في التربية غاية التأثُّر، ويحرصون كلَّ الحرص على الالتزام بتوجيهاته، فكان الغائب إذا حضر من غيبته؛ يسأل أصحابه عمَّا رأوا من أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعن تعليمه، وإرشاده، وعمَّا نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتَّبعون خُطَى الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقِّنونه أبناءهم، ومن حولهم.

في هذا الكتاب تقصٍّ لأحداث السِّيرة، فيه تناول لأحوال العالم قبل البعثة، والحضارات السَّائدة، والأحوال السياسية، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والخلقيَّة في زمن البعثة، وعن الأحداث المهمَّة قبل المولد النَّبويِّ، وعن نزول الوحي، ومراحل الدَّعوة، والبناء التَّصوُّريِّ، والأخلاقيِّ، والتَّعبُّديِّ في العهد المكِّيِّ، وعن أساليب المشركين في محاربة الدَّعوة، وعن الهجرة إلى الحبشة، ومحنة الطَّائف، ومنحة الإسراء والمعراج، والطَّواف على القبائل، ومواكب الخير، وطلائع النُّور من أهل يثرب، والهجرة النبوية، ويقف الكتاب بالقارئ على الأحداث، مستخرجاً منها الدُّروس، والعبر، والفوائد؛ لكي يستفيد منها المسلمون في عالمنا المعاصر.

وقد حاول الباحث معالجة مشكلة اختزال السِّيرة النَّبويَّة في أذهان الكثير من أبناء الأمَّة، ففي العقود الماضية ظهرت دراساتٌ رائعةٌ في مجال السيرة النَّبوية، وكتب الله لها قبولاً، وانتشاراً، كالرَّحيق المختوم، لصفي الدِّين المباركفوري، وفقه السِّيرة للغزالي، وفقه السيرة النبوية للبوطي، والسِّيرة النبويَّة لأبي الحسن النَّدوي، وكانت هذه الدراسات مختصرةً، ولم تكن شاملةً لأحداث السِّيرة، واعتمدت بعض الجامعات هذه الكتب، وظنَّ بعض طلاَّبها: أنَّ من استوعب هذه الكتب فقد أحاط بالسِّيرة النَّبويَّة، وهذا خطأٌ فادحٌ، وخطيرٌ في حقِّ السِّيرة النَّبويَّة المشرَّفة، وقد حذَّر الشَّيخ محمَّدُ الغزاليُّ من خطورة هذا التصوُّر في نهاية كتابه (فقه السِّيرة)، فقال: قد تظنُّ: أنَّك درست حياة محمَّد صلى الله عليه وسلم  إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأٌ بالغٌ. إنَّك لن تفقه السِّيرة حقّاً إلا إذا درست القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهَّرة، وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبيِّ الإسلام صلى الله عليه وسلم ([1]) .

وفي هذه الدِّراسة يجد القارئ تسليط الأضواء على البعد القرآنيِّ، الَّذي له علاقةٌ بالسِّيرة النبويَّة، كغزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني النَّضير، وصلح الحديبية، وغزوة تبوك، فبيَّن الباحث الدُّروس، والعبر، وسنن الله في النَّصر، والهزيمة، وكيف عالج القرآن الكريم أمراض النُّفوس من خلال الأحداث والوقائع.

إنَّ السِّيرة النَّبويَّة تُعطي كلَّ جيلٍ ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحةٌ لكلِّ زمانٍ، ومكانٍ، ومُصلحةٌ كذلك.

لقد عشت سنين من عمري في البحث في القرآن الكريم، والسِّيرة النَّبويَّة، فكانت من أفضل أيَّام حياتي، فنسيت أثناء البحث غربتي، وهجرتي، وتفاعلت مع الدُّرر، والكنوز، والنفائس الموجودة في بطون المراجع والمصادر، فعملت على جمعها، وترتيبها، وتنسيقها وتنظيمها، حتى تكون في متناول أبناء أُمَّتي العظيمة، وقد لاحظت التَّفاوت في ذكر الدُّروس، والعبر، والفوائد، والأحداث بين كُتَّاب السِّيرة قديماً، وحديثاً، فأحياناً يذكر ابن هشام ما لم يذكره الذَّهبيُّ، ويذكر ابن كثيرٍ ما لم يذكره أصحاب السُّنن، هذا قديماً.

أمَّا حديثاً، فقد ذكر السِّباعي ما لم يذكره الغزاليُّ، وذكر البوطيُّ ما لم يذكره الغضبان، وهكذا وجدت في التَّفسير، وشروح الحديث، كفتح الباري، وشرح النَّوويِّ، وكتب الفقهاء ما لم يذكره كُتَّابُ السِّيرة قديماً، ولا حديثاً، فأكرمني الله تعالى بجمع تلك الدُّروس، والعبر، والفوائد، ونَظَمْتُها في عِقْدٍ جميلٍ يسهل الاطِّلاع عليه، ويساعد القارئ على تناول تلك الثِّمار اليانعة بكلِّ سهولةٍ.

إنَّ في هذا الكتاب حصيلةً علميَّةً، وأفكاراً عمليَّة جُمِعت من مئات المراجع، والمصادر، وقد أسهم في إخراج هذا الجهد إخوةٌ كثيرون من ليبيا، واليمن، والعراق، ومصر، والسُّودان، والسُّعودية، والإمارات، وقطر، وبلاد الشام بالحوار، والنقاش، والنَّدوات، فأفاد بعضهم بالإشارة إلى بعض المراجع، والمصادر النَّادرة، وعمل على توفيرها، والبعض الآخر أرشد إلى ضرورة التَّركيز على السُّنن، والقوانين الَّتي تعامل معها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  في حركته المباركة كقانون الفرصة في فتح خيبر، وفتح مكَّة، وأشار البعض إلى أهمِّيَّة ربط السِّيرة التَّاريخية بالسِّيرة السُّلوكيَّة، والسِّيرة المعبَّر عنها بحديثٍ شريفٍ، أو فعلٍ نبويِّ، والسِّيرة كما يقرِّرها القرآن الكريم ببعضها، ومزجها في منهجيَّةٍ متناسقةٍ تمدُّ أبناء الجيل بعلمٍ غزيرٍ، وفقهٍ عميقٍ، وعاطفةٍ جيَّاشـةٍ، فهي غـذاءٌ للرُّوح، وتثقيفٌ للعقول، وحياةٌ للقلوب، وصفاء للنُّفوس.

إنَّ السِّيرة النَّبويَّة غنيَّةٌ في كلِّ جانبٍ من الجوانب التي تحتاج إليها مسيرة الدَّعوة الإسلاميَّة، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  لم يلتحق بالرَّفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرةً لمن يريد أن يقتدي به في الدَّعوة، والتَّربية، والثَّقافة، والتَّعليم، والجهاد، وكلِّ شؤون الحياة، كما أنَّ التعمُّق في سيرة الرَّسول صلى الله عليه وسلم  يساعد القارئ على التَّعرُّف على الرَّصيد الخلقيِّ الكبير؛ الذي تميَّزَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن كلِّ البشر، والتَّعرُّف على صفاته الحميدة صلى الله عليه وسلم  الَّتي عاش بها في دنيا النَّاس، فيرى من خلال سيرته مصداق قول الشَّاعر:

 وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي

وَأَفْضَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْب

كَأنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ

   هذا ولا أدَّعي أنِّي أتيت بما لم تستطعه الأوائل، فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرٌ، وتوضيح بعض معالم سيرته يحتاج إلى نفسٍ أرقَّ، وفقـهٍ أدقَّ، وذكاءٍ أكبر، وإيمانٍ أعمق، كما أنَّني لا أدَّعي لعملي هذا العصمة، أو الكمال، فهذا شأن الرُّسل، والأنبياء، ومن ظنَّ أنَّه قد أحاط بالعلم؛ فقد جهل نفسه، وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85].

فالعلم بحرٌ لا شاطئ له، وما أصدقَ الشَّاعرَ؛ إذ يقول:

وَقُلْ لِمَنْ يَدَّعِي في الْعِلْمِ فَلْسَفَةً

حفِظْتَ شَيئاً وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ

يقول الثَّعالبيُّ: لا يكتب أحد كتاباً فيبيت عنده ليلةً إلا أحبَّ في غيرها أن يزيد فيه، أو ينقص منه، هذا في ليلةٍ، فكيف في سنين معدودةٍ؟!

وقال العماد الأصبهانيُّ: إنِّي رأيت أنَّه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّرَ هذا؛ لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا؛ لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا؛ لكان أفضل، ولو ترك هذا؛ لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقص على جملة البشر.

قال الشاعر:

أَسِيرُ خَلْفَ رِكَابِ القَوْمِ ذَا عَرَجٍ

مؤمِّلاً جَبْرَ مَا لاَقَيْتُ مِنْ عِوَجِ

فَإِنْ لحِقْتُ بِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا سَبَقُوا

فَـكَمْ لربِّ السَّمَا في النَّاسِ مِنْ فَرَجِ

وَإِنْ ظَلَلْتُ بِقَفْرِ الأرضِ مُنْقَطِعاً

فَمَا عَلَى عَرِجٍ فِي ذَاكَ مِنْ حَرَجِ


([1]) انظر: فقه السِّيرة، للغزاليِّ ، ص (476).