كان ذلك قبل أربعة عقود وأربعة قرون وألف عام . على مشارف المدينة وقفوا .. يستشرفون طلعته البهية وينتظرون مقدمه الميمون ، كانوا يخرجون كل يوم من حين سماعهم بخروجه من مكة مهاجرًا إلى المدينة .. يصلون صلاة الصبح ثم يخرجون إلى “حرّة”  المدينة الجنوبية ويقفون مشرأبّي الأعناق ، والهي القلوب ولايبرحون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيرجعون إلى بيوتهم وفي صدورهم من الشوق مثل مافي رمضاء “الحرّة !

إنها الأنصار تنتظر ضيفها الذي عاهدت الله على نصرته ومؤازرته ليبلغ نور الله ما بلغ الليل والنهار .

وعلى رمال صحراء الحجاز  سارت ناقتان قطعتا الفيافي من مكة إلى المدينة على مدى أيام شهدت حوادث عجيبة وأوقاتًا عصيبة ، ناقتان اختارهما الصاحب الصدّيق عليه رضوان الله، تحمل الأولى أفضل رسل الله ، والثانية تحمل أفضل الناس بعد رسل الله ، وصلتا مشارف المدينة تحملان السعد والفلاح لهذه المدينة الصغيرة التي تحفها أشجار النخيل وتحوطها الجبال ويسكنها الأوس والخزرج ابنا قيلة ويجاورهم اليهود .

وصلت الناقتان اللتان حملتا خير اثنين على وجه الأرض حينئذ، فاشرقت وجوه أهل المدينة صغارهم وكبارهم بالنور الذي أرسله الله ليضيء الدنيا.

تقصر الكلمات وتتطامن الحروف عن وصف الفرح الذي تلألأ في العيون ونبض في القلوب وتلعثم على الشفاه ، لا تستطيع الحروف وإن تزينت أن تصف البهجة والسعادة التي كانت بحجم الكون .

تلقى الأنصار نبي الهدى بالحفاوة والإجلال ، استقبلوه استقبال الرجال الذي صادقوا ماعهدوا الله عليه ، كانوا متقلّدي السيوف، ومتشّحين بالفداء والوفاء ، واحتفوا برسول الله عليه الصلاة والسلاو فخرًا ونصرة وجذلًا .

دخل رسول الله -صلى عليه الله- المدينة الشريفة ضحى يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول وهو أول يوم من الهجرة النبوية، ذلك اليوم الذي اختاره الفاروق عمر منطلقًا لتأريخ أيام المسلمين .

دخل المصطفى عليه الصلاة والسلام المدينة و حينها أضاء كلّ شيء فيها  كما قال ابن المدينة أنس ابن مالك رضي الله عنه ،وغدت هذه المدينة سيدة الدنيا ومأرز الإيمان ومعقل الإسلام وعاصمة المسلمين الأولى .

وأقام عليه الصلاة والسلام عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وبنى مسجد قباء وهو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ،وهو أول مسجد بُني في الإسلام .

ثم ارتحل من قباء راكبًا راحلته وقد أرخى لها الزِمام،فسارت القصواء في دروب المدينة يهديها ربها إلى مبركها حيث يسكن النبي عليه الصلاة والسلام ،وتسابق المسلمون للظفر بشرف استضافة أشرف الخلق والفوز بفضل القرب منه، وكان كلما حاذى دارًا من دور الأنصار تلقوه بالترحاب وقالوا : هلمّ يا رسول الله! إلى العدد والعُدّة والـمَنَعة، ولزموا بزمام ناقته ، فيقول لهم: “خلوا سبيلها فإنها مأمورة”، وقد أرخى لها زمامها وهي تنظر يمينًا وشمالاً ، والناس كَنَفَيْها حتى بركت على باب أبي ايوب الأنصاري -رضي الله عنه- وهو أحد بني النجار ثم سارت وبركت مبركها الأول وألقت جِرانها (باطن العنق) بالأرض وأرزمت (صوّتت) ، فنزل ضيف المدينة وسيّدها صلى الله عليه وسلم وقال :”هذا هو المنزل إن شاء الله تعالى” ،واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته .

حمل أبو أيوب المجد من أطرافه والشرف على أكتافه ، حمل السعادة والبركة إلى منزله ، إنه يستضيف رسول الله في بيته ، ويالها من منزلة وشرف ، أي شرف !

وأول عمل قام به النبي عليه الصلاة والسلام بعد مسكنه المدينة بناء المسجد ، وتنافس المؤمنون في تشييد المسجد النبوي الشريف ابتداءً من بذل الأرض وحمل  الحجارة واللَّبِن ،وكان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام ينقل اللَّبِن مع أصحابه ويرتجز معهم :

اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة

وبعد أن تم بناء المسجد النبوي الشريف بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوله حُجَرٌ – غرف- لتكون مساكن له ولأهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء.

وكان المسجد محراب الصلاة، ومركزًا الإمارة ، ومدرسة التعليم ، وساحةً لعقد ألوية الحق ، ومجلسًا للقضاء ، وصرحًا لقيم الحق والخير والجمال .

وكانت بيوت النبي منائر تتلى فيها آيات الله وتتدارس فيها الحكمة ، ومن هذه البقعة الشريفة في قلب المدينة أشرق النور على أرض الله .