متى يكون المسلم قد خسر رمضان؟ وما المقصود بالخسارة في الحديث الشريف: “خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له”، والجواب على هذه الأسئلة نكتشفه خلال هذا المقال.

نتذاكر كم مرة أخبرنا الله ربنا سبحانه وتعالى عن الجنة وصفاتها وما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وعن عرضها الذي كعرض السموات والأرض تحبيبا إلينا، ودعانا إليها متسابقين مسرعين دون التباطؤ (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) [آل عمران: 133]. (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) [الْحَدِيدِ: 21]

في هذا النداء من أرحم الراحمين معنى انتهاز الفرصة قبل حسرة الفوت، لأن الإنسان لا يدري ماذا يعرِض له في أي لحظة.

والنبي عليه الصلاة والسلام في غير حديث يقول: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض»[1] ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا: «بادروا بالأعمال»[2] الصالحة قبل عدم تمكنها.

فأي خسران أعظم من خسران من لم يجد موضعا في جنة عرضها السموات والأرض؟

وقال عمر بن عبد العزيز في آخر خطبة له: “خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض[3].

وكان استحضار هذا الشعور العميق هو بوابة سرّ نجاح الرعيل الأول في تنافسهم على أشده في الأعمال الصالحة.

من هو الخاسر في رمضان؟

والعجيب أن الله تعالى رتب على دقائق عبادات يتكرر فعلها في كل يوم وليلة أجور عظيمة كتكفير الخطايا لمن أحسن الوضوء فتخرج خطاياه من وجهه ويده وظفره….حتى يفتح له أبواب الجنة الثمانية ليدخل من أيها شاء، ولخُطوات المصلي الماشي إلى الصلاة إحداهما تحُطّ خطيئة، وغيرها من أعمال قليلة بأجور عظيمة، الله أكبر ما أعظم هذا العطاء والجزاء!!

والأعجب من ذلك أنه سبحانه وتعالى جعل الحسنات تتضاعف في مواسم الطاعات والأوقات الشريفة التي تتوالى على مدار العام ربما نظرا لقصر عمر هذه الأمة الإسلامية وتسهيلا للطرق المؤدية إلى الجنة التى عرضها السموات والأرض، ومعلوم أن فرص مضاعفة الحسنات في شهر رمضان لا تقارن بغيرها من الشهور، وهو موسم الإنابة والطاعات تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتقيد الشياطين وتغفر الذنوب وتكفر السيئات، وفيه ليلة خير من ألف شهر…، وهذه الحقيقة تكفي لتحريك أشواق الفؤاد وتنشيط الجوارح لعمل الخيرات ودخول في ضروب من الطاعات، وقد منح الله تعالى عباده هذه الفرص حتى يفوز الفائزون فوزا عظيما. 

قال الحسن البصري: إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا،وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون! [4]

قال رسول الله يوما لأصحابه: أحضروا المنبر ثم صعد، فلما رقي عتبة قال: “آمين”، ثم رقي عتبة أخرى فقال: “آمين”، ثم رقي عتبة ثالثة فقال: “آمين”، فلما فرغ نزل عن المنبر فقال الصحابة: يارسول الله سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه فقال: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين[5]

تأمل مغزى الدعاء؛ الإبعاد من مغفرة الله تعالى كما في رواية:” فأبعده الله”[6]

ومن الذي دعا؟

الداعي هو سيد الملائكة جبريل عليه السلام!

ومن الذي بادر بقول آمين على الدعاء؟

هو خير البشر خليل الرحمن محمد رسول الله عليهما الصلاة والسلام.

وأي فاشل في شهر الغفران ينجو من هذه الدعوة المستجابة؟ وما مثل أجواء شهر رمضان من الفرص لإنابة وتوبة؟

وكأنه عليه الصلاة والسلام أمن على الدعاء ليُعَرف أمته خطورة الفشل والخسارة في رمضان؛ حتى لا يتحسر أحد من الندم؛ فدلهم على الجد والحذر من وقوع في هذا فخ الخسران.

ما هي أسباب خسارة أجر رمضان؟

إن أسباب خسارة رمضان وما فيه من الأجور والمغفرة لدى بعض الناس كثيرة ومتنوعة، وإن كان بعضها أهون من بعض، منها دنيوي ومنها أخروي.

1 – من الناس من لم يفرق بين رمضان وغيره من الشهور، دخل عليهم رمضان دون صيامه ولا قيامه فأعرضوا عنه تماما تهاونا لا جحودا، وخرج رمضان بلا تأثر ولكن بالحسرة.

قال الحافظ الذهبي رحمه الله:  وعند المؤمنين مقرر: من ترك صوم رمضان بلا عذر بلا مرض ولا غرض فإنه شر من الزاني والمكَّاس ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال. [7]

2 – من الناس من ارتاح إلى الكسل والميل إلى الأخلاق الدنيئة، واستحوذ على نفوسهم الشهوات فانصرفوا إليها انصرافا بالغا، حيث جعلوا همهم تعمير شهر رمضان بالأمور السافلة الساقطة، يخلدون للنوم في معظم النهار ويسهرون في الليل بما لا يليق بشهر الفضيل من التصرفات؛ إما بالاستماع إلى الأغاني يصاحبه التدخين أو بمشاهدة الأفلام أو المباريات أو المسلسلات ونحوها، وربما ينغمسون في هذه السفاسف حتى وقت السحور، وتركوا صالح الأعمال، وقصروا في الجد والاجتهاد في أعمال القربات والطاعات، ورسول الله يقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”[8]، وهؤلاء قاموا رمضان بالمنكرات، ولا شك على من حاله هذه فعلامة الخسران عليه بادية إن لم يعقد العزم بالإنابة إلى الله تعالى.

 3 – من الناس من يمتنع عن الطعام والشراب والشهوة في نهار رمضان دون الامتناع عن الكذب والغيبة والغش والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل، ومعنى صوم عندهم هو مجرد الكف عن المفطرات الحسية فحسب، ولكن كما قال ميمون بن مهران: إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب[9] .

وقد خاطب رسول الله هؤلاء قائلا: ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه[10]

وقال جابر: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.[11]

قال أبو العالية: “الصائم في عبادة وإن كان راقداً على فراشه ما لم يغتب”[12]

4 – من الناس من يتخذ شهر رمضان فرصة ثمينة لترويج البضائع نظرا لإقبال الناس على الأسواق والمجمعات التجارية إقبالا متزايدا لشراء المستلزمات الرمضانية، ومن هنا يتحول شهر رمضان عند التجار إلى موسم التنافس لتحقيق الأرباح أضعافاً مضاعفة، وفي البحث عن أنواع التسويق وأفضل الطرق لترويج البضائع بشكل واسع انتهازا لكل فرصة سانحة في الأجواء التجارية الراهنة.

وطلب الأرباح ورواج التجارات في شهر الفضيل غاية مشروعة ومباحة في ذاتها بلا شك، ولكن تشوبها شائبة من الخسارة في حق من لا هم له في رمضان إلا السعي الحثيث وراء الماديات الدنيوية دون الانتباه لهدف رمضان والاستثمار فيه بأنواع الطاعات – تجارة لا ريب في ضمان أرباحها-، وقد يؤدي حبه الشديد للأرباح الرمضانية وعدم المبالاة إلى أكل الحرام بشعور أو بغير شعور فيقع عليه الاثم في الوقت الفضيل.

قال ابن القيم: والتكاثر أن يَطلب الرجل أن يكون أكثر مِن غيره، وهذا مذموم إلاَّ فيما يُقَرِّب إلى الله ، فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومُسَابَقة إليها[13]

5- من الناس من أثر فيه الترف، وألهاه ذلك عن القيام بالأعمال الصالحة كما ينبغي، بل نهمه الوحيد هو تخزين البيت بالحوائج وغيرها من المكملات والتحسينات من الأطعمة والألبسة والأدوات الأخرى، ومن ثم جعل أمر التسوق مقدما فيطوف الأسواق ليلا ونهارا ويسترسل في الملاذ حتى أيام العيد.

وقال ابن القيم: قالت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن الراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات “[14]

وعلى كل مسلم أن يحاول ويجعل رمضان شاهدا له لا عليه، ويصيره مدرسة يهذب فيها نفسه ويترقى فيها إيمانيا وأخلاقيا وسلوكيا، ويجعله لحظة التحول تتلوها حياة سعيدة جديدة، ومن فطن لهذه النظرة الدقيقة مع رمضان هو الذي عرف قيمة النجاح في هذا الشهر الفضيل ومثله لن يكون من الخاسرين بل من المفلحين.


[1]  رواه مسلم (1901)

[2]  المصدر السابق (118)

[3] حلية الأولياء 5/286

[4]  بستان الواعظين ورياض السامعين (372)

[5]  ينظر صحيح ابن حبان (409) وشعب الإيمان (1471)

[6]  ينظر صحيح ابن حبان (409) وغيره

[7]  الكبائر: ص 64

[8]  متفق عليه

[9]  المحلى 4 / 308

[10] رواه البخاري (1903)

[11] لطائف المعارف ص:155

[12] رواه عبد الله بن أحمد في “زوائد الزهد

[13] الفوائد ص:31

[14]  شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر. ص:250