حياته تجربة فريدة في الإيمان، أسلم وهو في الخامسة عشر من عمره، ومنذ تلك اللحظة وهب حياته لهذا الدين، فذاعت شهرته، وأسلم على يديه نخبة من البريطانيين،  كاد أن يصبح ملكا لتركستان الشرقية، إلا أن التحالف الصيني- السوفيتي عصف بتلك الجمهورية الوليدة.

أول مرة قرأت عنه في كتاب “هذه حياتي” لشيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود، عندما تحدث عن الدكتور “خالد شيلدراك” الذى التقاه في أحد القصور الفخمة في باريس في مطلع الثلاثينيات للاستماع إلى محاضرة لأميرة بريطانية مسلمة، إلا أن الشيخ لم يمنحنا الكثير من المعلومات عن ذلك الأديب والداعية الذي لعب دورا في إرساء الإسلام في بريطانيا بلسانه وقلمه وماله.

البحث عن يقين

في العام 1888م يولد بيرترام شيلدراك في لندن، لأسرة ثرية كاثوليكية تتاجر في المخللات والتوابل، فنشأ ميسور الحال، وفر له الثراء حياة مريحة وكريمة، واهتم منذ صغره بالقراءة في الأديان، وبدأت رحلته مع الإسلام عندما أعلن إسلامه عام 1903، وتسمى بـ”خالد” ولكن جاء إسلامه من طريق مختلف، فقد ذهب إلى إحدى المكتبات، ووجد الكثير من الكتب التي تهاجم الإسلام، فأثار ذلك عنده الكثير من التساؤلات حول هذا الدين الذي يُشن عليه هذا النقد، فأخذ يقرأ عن الإسلام حتى أعلن إيمانه، ويقول عن تجربته: ” لم أتلق هذا الدين في أول الأمر من كتبه ولكنني تلقيته من كتابات الطاعنين فيه، وفي دور الكتب العامة في بريطانيا دراسات عن كل الأديان ما عدا الإسلام ، إذ أن الكتب التي ألفت عنه مملوءة بالتحامل والمطاعن والعرض الظالم والزعم أن الإسلام ليس دينا مستقلاً ولكنه أقوال محرفة عن كتب المسيحيين!..وتسالت في نفسي: إذا كان ﻻ أهميه للإسلام إلى هذا الحد فلماذا يبذلون كل هذه الجهود للتحامل عليه ومقاومته وتوجيه المطاعن اليه؟”.

كان الإسلام في ذلك الوقت يبحث عن مكان وسط البريطانيين، وكانت بدايات الجهود للتبشير بالإسلام في قلب بريطانيا، من مثقف هندي مسلم هو “خواجا كمال الدين”[1] استطاع أن يغير في خريطة الإسلام في بريطانيا فأسلم المئات في تلك الفترة، وأخذ المجتمع يشعر بالإسلام مع تحول عدد من الشخصيات ذات المكانة في المجتمع إلى الإسلام، مثل: الباحث والروائي مارمادوك بيكثال، والنبيلة إيفلين موراي، التي أصبح اسمها زينب كوبولد، وتشارلز هاملتون الذي أصبح اسمه السير عبد الله تشارلز، والمحامي وليام كويليام الذي تسمى عبد الله كويليام.

حصل شيلدراك على الدكتوراه في الأدب الإكوادوري، وتزوج من السيدة “سيبيل” التي أسلمت وأصبح اسمها “غزية شيلدراك” Ghazia Sheldrake، وأنجب منها طفلين، وأعطته حياة اليسر التي عاش فيها الفرصة ليوجه جهوده لخدمة الإسلام، ويعطي الكثير من وقته للدعوة، فأسس مع عبد الله كويليام جمعية إسلامية للدافع عن الإسلام والدعوة إليه، ثم تولى رئاستها عام 1911، فأسلم الكثير من البريطانيين، وعندما غزت إيطاليا الأراضي الليبية في نفس العام، أسهمت الجمعية في دعم المجاهدين الليبيين، إلا أن نشوب الحرب العالمية الأولى عطل عملها، وذهب شيلدراك إلى ميادين القتال، وبعد انتهاء الحرب أنشأ جمعية جديدة اسمها “الجمعية الغربية الإسلامية” عام 1920 واختير رئيسا لها، وكان لها نشاط خيري واسع، فأنشئت عدة مساجد، إلا أن أهم أعماله في تلك الفترة هو ترجمة معاني القرآن الكريم بلغة الإسبرانتو[2] العالمية عام 1914، تلك اللغة التي كان مفترضا أن تكون لغة عالمية.

ساهم شيلدراك في تأسيس عدد من المجلات المهمة للتعريف بالإسلام منها مجلة بريطانيا والهند ” Britain and India” في عام 1920، ومجلة “أخبار المسلم” the Muslim News، ومجلة المئذنة The Minaret، وكانت مجلة مهمة كتب فيها مقالا أثار ضجة عام 1927 عن إعجاب القائد الفرنسي نابليون بونابرت بالإسلام، كما ساهم في تمويل بناء أول مسجد في لندن عام  في منطقة واندسورث 1926، وفي بناء مسجد آخر في بيكهام، وساهم في تأسيس الرابطة الإسلامية الغربية، عام 1927 التي سعت للتعريف بالإسلام في المجتمع البريطاني، وفي العام 1928 أنشأ صندوقا لدفن المسلمين الغرباء في بريطانيا، وكان أول شخص تم دفنه على نفقة الصندق مسلم هندي يسمى “سيد علي” كان مدربا للأفيال في حديقة الحيوان بلندن.

كان شيلدراك يمتلك قلما مؤثرا، وفهما عميقا عن الإسلام وكان يزعجه عدم استيعاب الإسلام في بريطانيا، فعندما دخل الإسلام كان هناك  ثلاثمائة شخص اعتنقوا الإسلام، وبعد ثلاثين عاما تضاعف العدد وهو ما يعني أن حركة الإسلام كانت تسير ببطء في المجتمع، ورغم أن عدد المسلم وصل إلى ثلاثة آلاف شخص، إلا أن جزءا كبيرا منهم فضل العيش خارج بريطانيا، لذا سعى للتواصل مع النخبة البريطانية والتعريف بالإسلام، فأسلمت السيدة غلاديس بالمر ابنة اللورد “والتر بالمر”، والتي اعتنقت الإسلام في باريس، وكانت أميرة على مقاطعة “سارواك”[3]، وكان لقبها “دايانغ مودا”، وكان خبر إسلامها مثار اهتمام واسع في الأوساط البريطانية والصحفية نظرا لشهرتها.

ملك سينكيانح

تمتع خالد شيلدراك بصيت واسع في العالم الإسلامي، وكانت مقاطعة تركستان الشرقية أو “سينكيانج”[4] غير مستقرة، وتتصارع فيها القبائل ، كما أنها كانت محل أطاع الاتحاد لسوفيتي والصين، وأما تلك الانقسامات والأطماع  رأت بعض الزعامات أن وحدة الإقليم قد تتحقق من خلال تولية مسلم من غير الإقليم ليصبح حاكما[5]، وبعد تفكير، استقر الرأي على شيلدراك، وسافر وفد إلى لندن ليعرض عليه أن يكون ملكا على تركستان الشرقية، فتوجه شيلدراك عام 1933 إلى آسيا وزار عددا من دولها، وألقى عدة محاضرات عن “محاسن الإسلام”، وفي مارس 1934 أخذت الصحافة تشيع أنه “ملك سيكنيانج” وكتب عنه مجلة المنار أنه المرشح الوحيد لعرش تركستان الصينية، فتعرض لمضايقات اثناء زيارته للعاصمة الصينية، بعدما سرت إشاعات بأنه الجمهورية التي سيتولاها شيلدراك اسمها “اسلامستان” Republic of Islamestan، واتهمه البعض بأنه جاسوس بريطاني، ووجدت اعترضات دولية على فكرة ترشيحه ملكا على تركستان[6].

وفي تلك الفترة أخذ التحالف الذي أنشأ جمهورية تركستان الشرقية في الانهيار، ومع قرب وصول شيلدرك إلى كاشغار عاصمة تركستان كانت تلك الدولة تنهار في أغسطس 1934 وتقع في قبضة الصينيين والسوفيت، فهرب شيلدراك إلى الهند، وقال :” “لست مستعدًا لأن أكون بيدق في أي لعبة سياسية”، ثم عاد إلى لندن وألقى عدة محاضرات عن تركستان، لكن الرأي العام البريطاني والغربي، لم تكن تعنيه القضية؛ نظرا لأنها ضمن أطماع العملاق الصيني والدب الروسي، فانصرف اهتمامه إلى الشئون الدعوية في بريطانيا وسافر إلى عدد من الدول ومنها: مصر عام 1938 والقى في جمعية الشبان المسلمين محاضرة كان موضوعها ” القرآن في نظر الغربيين”، ثم عاد إلى ضاحية فورست هيل واستقر فيها حتى وفاته عام 1947.


[1] ولد خواجا كمال علي في البنجاب عام 1870م، من أسرة كشميرية ذات مكانة في المجتمع الهندي، ولها جهودها في خدمة الإسلام، فنشأ ذا عزيمة جبارة، اطلع على الأديان، وتخصص في الاقتصاد والتاريخ والقانون وكان أستاذا للاقتصاد في جامعة لاهور،  ثم عمل محاميا وفي عام 1912 رحل إلى بريطانيا، واختار لندن مركز لنشاطه الدعوي، وأخذ يلقي المحاضرات عن الإسلام، فأصبح شخصية مشهورة بعدما استطاع أن يعيد الحياة إلى مسجد “وكنج” وهو من أوائل المساجد في بريطانيا، ومع العام 1913 كان خوجه في المسؤول عنه بعد افتتاحه، وفي خلال نشاطه اعتنق ما يقرب من ألف شخص الإسلام من شخصيات لها نفوذها في المجتمع البريطاني، مثل: اللورد هيدلي حيث حجا معا إلى مكة في العام 1925، كما أسس مجلة “إسلامك ريفيو”، وساهم في تأسيس الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى، وتوفي 1932

[2] الإسبرانتو  Esperanto، هي لغة مصطنعة اخترعها لودفيغ أليعزر زامنهوف کمشروع لغة اتصال دولیة سهلة عام 1887.

[3] سارواك Sarawak منطقة في ماليزيا، وقد استطاع البريطاني جميس بروك أن يقيم فيها مملكة تحت سلطته، ثم وضعت تحت الحماية البريطانية عام 1888، واستمرت تلك الأسرة تحكمها ما يقرب من قرن، ثم أصبحت بعد ذلك جزءا من ماليزيا

[4] كانت تركستان الشرقية أو شينجيانج أو سينكيانج أو “الحدود الجديدة” موطن للشعب الإيغوري المسلم، وكانت الأطماع الصينية فيها كبيرة ، وقامت فيها جمهوريتان:

الأولى نشأت في نوفمبر 1933 وعرفت باسم جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية (المعروفة باسم ETR) ، إلا أن الصينين والاتحاد السوفيتي استطاعوا تحطميها واحتلالها، وأعدم الصينيون كافة اعضاء وموظفي الحكومة ويزيد عددهم على العشرة آلاف، واستمرت الجمهورية حتى 16 أبريل 1934، وكانت عاصمتها كاشغر، وكان يقترب سكانها من الميلوني مسلم.

الثانية: نشأت بمساعدة السوفيت في 12 نوفمبر 1944، واستمرت قرابة العام حتى سيطرت عليها الصين في  20 ديسمبر 1949

[5] أعادت علاقة شيلدراك مع تركستان الشرقية، التذكير برواية الأديب الانجليزي روديارد كبلنغ (1865 – 1936) الذي ولد في الهند البريطانية وألف كتابا أسماه “الرجل الذي سيصبح ملكا” عام 1888 The Man Who Would Be King ، وتدور حول مغامرين بريطانيين في الهند البريطانية أصبحوا ملوك كافرستان the leaders of Kafiristan ، وهي منطقة نائية من أفغانستان. وقد استلهمت القصة من مغامرات جيمس بروك، وهو إنكليزي أصبح أول حاكم أبيض على سارواك

[6] اعتمدت مادة المقال على دراسة  بعنوان The last king of Xinjiang: how a Briton almost ruled Kashgar” “

منشورة على الرابط  التالي: