عادة ما يلجأ صناع السياسات العامة إلى الخبراء، حين يتعلق الأمر بتصميم جسر معلق، أو استخدام عقار جديد ضد الأمراض الفتاكة. أما في مواجهة القضايا التعليمية الشائكة فإن القائمين على السياسة التعليمية يميلون إلى تدعيم قراراتهم وخططهم الإصلاحية بفرضيات وتحيزات مبسطة، تستند إلى توظيف انتقائي للبحث العلمي.

وإذا كانت إحدى مهام المدرس المحورية هي تحدي التصورات القائمة في أذهان متعلميه، وحثهم على مراجعتها في ضوء الحجج المنطقية، فإن المنظومة بكاملها تفتقر إلى دليل لتفكيك الأحكام التبسيطية، والاستعمال السيء لما يصدر عن علم النفس وعلم الأعصاب من تفسيرات لا تصمد أمام الفحص الدقيق، من أجل ضمان ألا يتلقى أطفالنا تعليما رديئا.

في تصورهما العام لكتاب (تعليم رديء) يثير فيليب إيدي وجوستين ديلون دواعي التئام زمرة من الخبراء العالميين، لرصد نماذج التطبيق غير الرشيد، والادعاءات المبالغ فيها داخل النظم التعليمية. إذ ينطلق المحرران من خمسة أسباب تستدعي عودة الخبير للإمساك بزمام الأمور، ونزع غطاء العلمية الذي يتدثر به صناع السياسة التعليمية.

أول تلك الأسباب هو التفكير الحالم، أو ما يرغب التربوي في الإيمان به بغض النظر عن وجاهته العلمية.

ثانيا: التفكير الكسول الذي يبرر قبول أي نظرية تم عرضها بشكل جيد ومنسق لتحسين التعليم؛ كالافتراض مثلا بأن التدريس لكل طفل وفق نمطه المفضل يعزز جودة التحصيل الدراسي.

ثالثا: الاستعمال السيء للإحصائيات والمعطيات الرقمية.

رابعا: الاستناد إلى أصول فلسفية، بدل أن ينبني التعليم على معطيات وحقائق أمبريقية، من قبيل أن فرض الزي الموحد يجعل الأطفال أكثر ذكاء.

وأخيرا: التبسيط المفرط في التصنيف والتنميط وإصدار الأحكام.

رسخت هذه الأسباب قناعة لدى المسؤولين بأن العملية التعليمية التعلمية يمكن ضبطها بالكامل، فأصبح المدرسون عرضة لوابل من التعليمات، والتوجيهات لتفاصيل ما يجري في قاعة الدرس. الأمر الذي انعكس سلبا على مهنية المدرس، وحال دون التأمل الناقد لبعض الأفكار والممارسات، كنظرية الذكاءات المتعددة، لمجرد أنها تحظى بدعم حكومي!

يقع أولياء أمور التلاميذ ضحية تمثل سائد مفاده أن هناك فروقا شاسعة بين المدارس من حيث التحصيل الدراسي، وبالتالي فإن الطفل سيكون أفضل إذا كانت المدرسة جيدة. وغالبا ما تستند المقارنة إلى نتائج الامتحانات، ونسب النجاح العالية. غير أن ديلان وليام، أستاذ التقييم التربوي بجامعة لندن، يعتبر أن الوصول إلى رأي سديد يحتاج البحث في مدى جودة تعلم التلاميذ فعليا في المدارس.

إن التقسيم الشائع للمدارس إلى جيدة ورديئة، يخفي وراءه ما يسميه ديلان ب”العوامل السياقية”؛ حيث تكون النتائج الجيدة أحيانا حصيلة دافعية، يُعبر عنها التلاميذ الذين أتيح لهم اختيار ما يدرسونه.

كما أن بعض المدارس تعتمد الانتقائية من الناحية الاجتماعية، فيكون من الخطأ أن نقارن أداءها بمؤسسات أخرى، تقدم خدماتها في مناطق هامشية. بالتأكيد سيبدو الأمر أشبه بلوم مستشفى على ارتفاع عدد الوفيات، رغم أنه لا يستقبل سوى الحالات الخطرة جدا.

إن السياسة التعليمية تفترض أن الأداء الأكاديمي للمدارس هو الشيء الأهم، يقول ديلان، لكن العدالة تقتضي أن المعلمين والمدارس تجب محاسبتهم فقط على ما يمكنهم التأثير فيه وهو التنمية المتكاملة لشخصية الطفل، بالإضافة إلى التقدم الدراسي الذي يحققه. بهذا الشكل فإن الغالبية العظمى من المدارس ستتشابه على نحو يجعل الفروق بينها بالغة الضآلة.

إلى جانب التمييز غير الموضوعي بين مدرسة جيدة وأخرى رديئة، سادت في أوساط أولياء الأمور نظرة مريبة إزاء التعليم المهني، مقارنة بالتعليم العام وما يحظى به من مزايا. خاصة في ظل ثورة تكنولوجية، تشيد بالذكاء وبالقدرات المعرفية. ولبحث المعتقدات التي غذّت هذا الخطأ الشائع، توصل كل من جاي كلاكستون، وبيللوكاس، الأستاذان بجامعة وينشستر، إلى وجود رواسب علمية وفلسفية، عززت حضور العقل كأرقى مظهر للتعبير الإنساني، في مقابل الجسد ونزعاته الآثمة.

ترجع بعض هذه الأحكام التبسيطية إلى أفكار جان بياجيه، وبحوثه التي اعتبر فيها أن التنمية المعرفية تؤدي بالضرورة إلى هجر الطرق الحس-حركية، في مقابل إتاحة المجال للاستدلال المنطقي. فأصبح التقدم في التحصيل العلمي رهينا بتغليب المعرفة المجردة على الأنشطة البدنية، وتشكلت قناعات مفادها أن الحرف والصناعات اليدوية لا تحتاج إلى إعمال العقل، لأنها في الغالب روتينية، ولا يتطلب التمكن منها سوى الملاحظة والتقليد.

ارتبط التعلم الأكاديمي إذن بإعداد أفضل للحياة في ظل فوضوية الواقع اليومي. لذا يُنظر للمتعلم الذي لا يسلك المسار الأكاديمي بأنه أقل شأنا، ويتم ربط الأمر بنقص في قدراته العقلية أو البدنية، وفي أفضل الأحوال بغياب الدافعية. غير أن دراسة العلاقة بين العقل والجسد، من منظور علم الأعصاب المعاصر، تنطوي على قدر كبير من التقدير للذكاءات التي يتمتع بها البدن، والتي تفترض مستوى عاليا من المعرفة، والحساسية، والخبرة البديهية. يتحدث مايك روز، على سبيل المثال، في كتابه “العقل عندما يعمل”، عن البنية المعقدة للذكاء المهني، وكفاءته في دمج مجموعة من المهارات للاستجابة لموقف معين؛ حيث تصبح عملية الحساب البسيطة عملية تصميم معقدة بالنسبة لنجار في الورشة، وتحت ضغط قد لا يتحمله الحاصل على درجة امتياز في امتحان الرياضيات.

وفي ارتباط بمسألة تصنيف المتعلمين في المدارس، يثير إد بينيس، الأستاذ المحاضر في معهد التربية بلندن، شكوكا حول الفرضية التي يستند إليها التصنيف، بناء على أداء التلاميذ في اختبارات التحصيل. حيث يسود الاعتقاد بأنه إجراء سيتيح إمكانية تكييف مدخل التدريس وأسلوبه بما يتفق مع حاجاتهم.

من خلال جرد نتائج عدد من الدراسات حول الموضوع، يلاحظ بينيس أن تصنيف القدرات ينجم عنه عدم المساواة، وتفاوت الفرص في الاستفادة من المناهج، ومصادر التعلم. إضافة إلى الوصمة التي تلاحق المتعلم عند تصنيفه في مجموعة متدنية القدرات، واحتمال أن ينزع التصنيف، بشكل أو بآخر إلى توزيع المتعلمين انطلاقا من الطبقة الاجتماعية، أو العرق، خاصة حين يتعلق الأمر بالقبول في المدارس، والذي لا يخلو من انتقائية على أساس الوضع الاجتماعي.

ويخلص البرنامج الدولي لتقييمات الطلاب، عبر رصده المستمر لأداء المتعلمين في تقييمات العلوم والقراءة والرياضيات، إلى أن تصنيف القدرات في المدارس يؤدي إلى تراجع الأداء الكلي للمتعلم، بحيث تتسع الفجوة في الإنجاز بين القادمين من خلفيات أسرية ميسورة وأخرى متواضعة. وأن التغلب على المشكلات المرتبطة بالتعلم لا يمكن أن يُحل بمزيد من التصنيف، وإنما بدمج المتعلمين ذوي القدرات المنخفضة، والمتوسطة، والعالية، والعمل على دعم المدرسين لتبني مداخل تدريس تلبي حاجات تعلم كل تلميذ.

من حق كل متعلم أن تُهيأ له الظروف المواتية لتدريس عالي الجودة. ويندرج حجم الصف ضمن تلك الشروط التي تتلاقى مع المنطق السليم في نظر أولياء الأمور، وتبرر إنفاقهم المال على التعليم الخصوصي الذي تتمتع فصوله الدراسية بحجم أصغر. بل ويؤمن المعلمون بدورهم أن الفصول الصغيرة تجعل مهمتهم أيسر، وبالتالي فإن تقليص حجمها سيسفر عن أداء تعليمي جيد.

غير أن بيتر بلاتشفورد، أستاذ علم النفس بمعهد التربية بلندن، يخلص في دراسة واسعة النطاق حول تأثير حجم الفصل على الإنجاز الأكاديمي، إلى محدودية الأثر الذي يُمكن أن ينتج عن وضع حد لأعداد التلاميذ في الفصل. فقد أبرزت نتائج الدراسة تحسن الانتباه وسلوكيات التعلم لدى التلاميذ في عامهم الدراسي الأول، إلا أن تلك المكاسب سرعان ما تراجعت بحلول العام الثالث.

إن تأثير الحقيقي لحجم الفصل مرتبط بطرق التدريس المتميزة، كالتدريس الأحادي، والتعلم بالأقران، والتعلم المعزز بالحاسوب. في حين أن الاكتفاء بتقليص أعداد التلاميذ لا يمكن أن يؤدي بالضرورة إلى تعلم أفضل. فهناك، بحسب بلاتشفورد دائما، أدلة بحثية على أن المعلمين لا يغيرون بالضرورة أسلوب تدريسهم في الفصول الصغيرة، إضافة إلى أن الدراسات الدولية المقارنة تؤكد أن مستويات الأداء العليا تتحقق في أنظمة تعليمية، تتمتع بفصول دراسية حجمها أكبر، كاليابان وكوريا الجنوبية.

بيد أن الاحتكام إلى البيانات الدولية، والإيحاء بأهمية المقارنة عند صياغة أي تغييرات، لا يمكنه أن يشكل بديلا للمعرفة الواقعية. من هذا الجانب تتصدى مارغريت براون، أستاذة الرياضيات بالكلية الملكية في لندن، للتمييز الشائع، سواء في الخطاب السياسي أو الإعلامي، بين التعليم التقليدي والتعليم التقدمي؛ إيمانا منها بأن الرؤى والممارسات في مجال التعليم، تتبدى بغاية البساطة والوضوح، مثل الرسوم الكاريكاتورية، حين ينظر إليها السياسي من مقعده في الصف الأول.

ترصد براون مواقف صناع القرار السياسي في إنجلترا من تدريس الرياضيات في المرحلة الابتدائية، بناء على نتائج اختبارات دولية، بعضها تبدو عيناته غير قابلة للمقارنة، وكيف أن المخاوف حول الكفاية الحسابية تحولت إلى صراع إيديولوجي بين الداعين إلى العودة للنموذج التقليدي، باعتباره ذو شعبية لدى الناخبين، وبين المناصرين للنهج التقدمي، حتى في غياب دراسات تشير إلى وجود ارتباط فاعل بين “العملية والمنتج”، بشكل يرجح أفضلية التعليم التقليدي أو التقدمي.

وفي خطوة لحسم النزاع، تخلص براون إلى أن إخضاع التعليم لطرق التدريس التقليدية أو الحديثة لا يمكن أن يسفر عن أية فروق حقيقية في الاختبارات الدولية. حيث إن الدول التي تقبع في مؤخرة الترتيب قد تستخدم نفس طرق التدريس التي تتبعها دول تتصدر القائمة، مما يحيل على فروق أخرى، تعززها شبكة معقدة من المعارف والمهارات المترابطة. لذا فالأجدر في هذه الحالة هو دعم طرق التدريس التي تجعل التعلم ذا معنى بالنسبة للتلاميذ.

وضمن مسعى لتحسين معدلات القراءة والكتابة، تناقش بيثان مارشال، المتخصصة في قضايا تدريس اللغة الإنجليزية وتقييمها، خلفيات التأييد الحكومي لطريقة تدريسية دون أخرى، ومدى ارتباط الأمر بموقف إيديولوجي يتذرع بالإحصاءات والمقارنات الملتبسة. 

 ففي سياق التصدي لمشكلة الأمية داخل المجتمع البريطاني، راهن صناع القرار على مدخل منظومي، يتضمن تقديم الصوتيات التركيبية في بداية تدريس القراءة، باعتبار أنه يقدم للغالبية العظمى من الصغار أفضل الطرق ليصبحوا قراء وكتابا ماهرين. وكان دعاة هذه الطريقة يرون أن الطفل يلزمه تعلم 44 “فونيما” – صوت لغوي – في اللغة الإنجليزية قبل تقديم أي كتاب له. وبالنسبة للكتب المصورة يجب أن تشتمل فقط على الكلمات التي يمكن فك ترميزها صوتيا بمجرد عرضها.

تم اعتماد هذه الطريقة من لدن الحكومة قبل المراجعة الأكاديمية، في الوقت الذي أثبت بحث قامت به لجنة القراءة الأمريكية، عدم وجود فروق بين مدخل الصوتيات التحليلية والتركيبية، إضافة إلى أن اللغة الإنجليزية ليست لغة صوتية ثابتة، لوجود عدد هائل من الاستثناءات لكل قاعدة صوتية.

لكن على مستوى النقاش السياسي، لم توافق مجموعة برلمانية على ما اعتبرته طريقة “نهج واحد يناسب الجميع”، انطلاقا من أن ليس هناك دواء سحري وحيد، يضمن لكل الأطفال أن يصبحوا قراء. لذا تم إطلاق مشروع بحثي جديد، أشرف على تنسيقه البروفيسور ألكسندر روبين، وعرف باسم “مراجعة كمبريدج”.

 دافع روبين في مشروعه عن مدلول متقدم للقرائية، يتجاوز التعرف على الكلمات المطبوعة في الصفحة إلى إدراك المعنى الكلي، وتوسيع آفاق الطفل للتفكر في الحياة والعالم كما هما في الواقع. وبذلك انتقل روبين من قرائية مدرسية تستهدف الانقياد والطاعة، صوب قرائية ناقدة، تستجيب للرصيد الثقافي التراكمي للجماعة، وتُعود الطفل على النقد والمساءلة، في ظل مجتمع منفتح يسعى لترسيخ الديموقراطية.

إن تدني القرائية يرجع بالأساس إلى كون المعلمين يميلون إلى التدريس الآمن غير الخلاق، وإلى اتباع الأطر الموضوعة للتدريس كما لو كانت نصا مقدسا. ولو أننا قمنا بتمثيل القرائية في المنهج، بناء على تصور يدعم الفضول حول كيف صارت الأشياء إلى وضعها الراهن، ويتحيز لمسؤولية الفرد وسيطرته، لتابعنا كيف يتشكل أمام أعيينا شخص نشط، ومبدع، وواسع الأفق.

ورغم القناعة السائدة بمحورية التعليم النظامي، إلا أن جوستين ديلون، أستاذ العلوم بالكلية الملكية في لندن، يتساءل عن سر البغض الذي يُبديه المتعلمون للعلوم حين يتم تلقينها في حجرات الدرس، بينما نراهم مأسورين ومفتونين بالخبرات الأصيلة التي تُمدهم بها مواقع “غير نظامية”، كالمتاحف، والمحميات البيئية، ومراكز العلوم.

لقد ظل الناس لحقب طويلة يتعلمون عن طريق الملاحظة، والمحاولة والخطأ، والاستماع لقصص الجدات. تعلم لا منهج له، ولا يحظى بصفوف دراسية ولا شهادات، وغالبا ما يكون مرتجلا. لكنه في عقد التسعينات سيثير الاهتمام بفضل العدد المتنامي من وسائط الإعلام، ويتيح فرصا للتعلم في سياقات غير مدرسية، وضمن مسارات أصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية.

بدل التقسيم الشائع للتعليم إلى نظامي وغير نظامي، يقترح ديلون تحويل بؤرة التعلم للخارج، وتمكين المتعلمين من خبرات مدرسية أكثر تشويقا. لكنه ينبه إلى بعض المحاذير التي ينبغي مراعاتها لضمان التكافؤ. صحيح أن درسا واحدا في الخلاء يعادل سبعة في حجرة الدراسة، كما ردد التربوي المعروف تيم بريجهاوس، لكن هذا العمل الميداني بحاجة إلى تصميم جيد، ومتابعة فعالة. كما يجب التصدي للمخاوف التي تثيرها التبعات القانونية للرحلات والزيارات الخارجية، وتجاوز المعيقات المرتبطة بالكفاءة الذاتية للمدرسين، والعلاقة بين المدارس ومقدمي الخدمات، من مراكز، ومتاحف، ومحميات بيئية، وتوفير التمويل اللازم لتعزيز الشراكات.

ولأن التعليم بحاجة إلى مواكبة نتائج البحوث المعاصرة، لتجديد ممارساته واعتناق رؤى أكثر علمية، فقد نشأت روابط مثيرة للاهتمام بينه وبين علم الأعصاب، لم تخل، للأسف، من نماذج لسوء التطبيق، أو تبني ما يسميه كوري نريد ومايك أندرسون، المشرفان على برنامج بحوث الأطفال في جامعة غرب أستراليا، ب”الخرافات العصبية”.

تنطوي الخرافة على بذرة من الحقيقة، لكن القول بأننا نستخدم فقط %10من أدمغتنا، فلا يوجد دليل يدعمه. وعلى مدى سنوات عديدة لم تُظهر الخرائط الدماغية أية مناطق لا وظيفة لها في الدماغ البشري. لكن هذا الادعاء تحديدا لقي رواجا مذهلا في سوق برامج التدريب العقلي.

ويروج أيضا بين التربويين الحديث عن اختلاف نمط تعلم الفرد، تبعا لنصف الدماغ الذي يستخدمه. فأصحاب الجانب الأيسر يميلون إلى المهام التحليلية والتفكير القائم على اللغة، أما من يستخدم الجانب الأيمن، فيُبدي كفاءة أكبر في المهام المكانية، والفن، والرياضيات. غير أن هذه الخرافة بنيت على ملاحظة أدمغة تعرض أصحابها لحوادث، فكان هذ التمايز بين فصي الدماغ عرَضا لحالة مرضية، وليس نموذجا للأداء الوظيفي للدماغ.

تنبثق أغلب الخرافات التي عرضها الباحثان من سوء فهم أو تقدير للمسافة بين ميدانين، لكل منهما لغته المختلفة ونهجه المستقل. لذا نشأ عن الارتباط بينهما مبالغة في تفسير مسوح الدماغ، ونتائج البحوث المرتبطة بعلم الأمراض، أو التي تمت على أدمغة حيوانات، تختلف في بنيتها ووظائفها بدرجة فارقة عن البشر. وهو ما يستدعي التروي، وتجميع الأدلة القائمة على أساس نظري سليم، حتى يتسنى تطوير أدبيات قادرة على توظيف بنية العمليات العقلية في سياقات التعلم بشكل صحيح.

في سياق مماثل يعترض فيليب إيدي، أستاذ العلوم المعرفية في الكلية الملكية بلندن، على التوظيف المتسرع وغير الناقد لنظرية “الذكاءات المتعددة” في المناهج الدراسية. وسر اعتراضه يرجع بالأساس إلى المعايير التي احتكم إليها هوارد غاردنر لتحديد ما يمكن اعتباره “ذكاء”. فادعاءه، على سبيل المثال، بأن كل جزء من الدماغ مرتبط بمهمة محددة، يُكذبه مبدأ التناغم الذي كشف عنه المسح المتطور بالرنين المغناطيسي، حيث أظهر التضافر بين مناطق متعددة في الدماغ لأداء مهمة معينة، كالرؤية، أو اللغة، أو الإدراك الفراغي.

وأما القول بوجود تاريخ تطوري لكل ذكاء، ونموه في مسار خاص وغير مقيد بالذكاءات الأخرى، فلا يصمد أما حقيقة العلاقة الارتباطية التي تنشأ دائما بين القدرات المختلفة. نعم، يمكننا عمليا وحتى منطقيا أن نميز بين القدرات اللغوية، والعددية، والحس-حركية وغيرها؛ إلا أن القياسات النفسية تكشف أن ثمة عاملا واحدا ومشتركا للذكاء، تنضوي تحته كل تلك القدرات.

وفي احتكامه لمعيار النوابغ الذي يتسمون بذكاء معين، يتجاهل غاردنر صعوبة تفسير النبوغ، إضافة إلى أن الأمر يتعلق بعدد صغير من الأفراد الاستثنائيين، ولا يمكن بالتالي استغلال ذلك لبناء مسار تعليمي يفترض قابلية تطبيقه على الجميع.

تتراوح القضايا التي يعالجها مؤلفو كتاب “تعليم رديء” ما بين الحديث عن كيفية تنظيم المدارس، وصولا إلى طرق التدريس، واختبارات تصنيف القدرات، والتدريب الذهني، والتعليم المهني. لكن خلف هذه القضايا وغيرها مما لم يُثر إما لارتباطه بسياق محلي، أو لكونه لم يرتق بعد سلم الأولوية، يُرفع تحد وجيه، لتسديد الممارسة التربوية بناء على الأدلة العلمية الأصيلة، ووضع التصورات والبرامج لتعليم أكثر واقعية، بعيدا عن التضليل، والمسلمات غير العقلانية للساسة وصناع القرار التعليمي بلا استثناء!