يعبر القرآن الكريم عن المجتمع بمثل مصطلح “القوم” “الأمة” “أخ” “بنو” “شعوبا وقبائل” وغير ذلك مما هو من عناصر المجتمع وقوامه. والمجتمع أحد أركان الدعوة إلى جانب الداعية ومنهج الدعوة والموضوع. يدل على ذلك “إنا أرسلنا نوحا إلى قومه”، “وإلى ثمود أخاهم”، وحديث “إنك تأتي قوماً”.

 

وقد عني الإسلام بضرورة فهم حقيقة المجتمع إلى درجة أن جعل علماء المسلمين معرفة طبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده من شروط الفتوى ومن تداعيات حسن الدعوة و الفقه وتنزيل الأحكام. يصنّف ابن بطوطة في رحلته، والبيروني في كتابه الهند -وغيرهما- من الأعلام الذين وصفوا المجتمعات بمنهجِ حكاية ووصْفٍ انطلاقاً من التجربة والمعايشة والملاحظة متبنين في ذلك بما يعرف اليوم بمنهج “ظاهراتي”.

وإن من خصائص مجتمعات غرب إفريقية بناء على مشاهدة الكاتب ما يأتي:

الظاهرة الإسلامية

تخبرك شوارع وسكك المجتمع عما فيها من مظاهر إسلامية، حيث إن الناس يصطفّون في الشوارع وأمام المحلات وفي المساجد (داخلا وخارجا) يؤدّون الصلوات تحت فيح الشمس. وتجد ذلك أيضا في تعظيم المجتمع لكل من قيل إنه “عالم دين” أو “شيخ.” وتجد ظاهرة الإسلام في طريقة تحية الناس بعضهم بعضا وما يصاحبه من احترام يختلف حسب اختلاف مستويات الأفراد. وظاهرة الإسلام حاضرة في ثوبها الفضفاض في مناسبات الناس في الأفراح والأتراح، حيث تسند ريادتها في الغالب إلى المشايخ الموثوقين بهم. وقد أعجمت العربية في لغات هذه المجتمعات حبّا لها في الإسلام، فسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وآمين من أكثر كلمات الناس تكرارا.

ظاهرة البساطة

ومما عاينته في هذا المجتمع الإفريقي خاصيةً البساطة غير المتكلفة، فإنها تظهر على السجية الأصلية في حياة أغلب الأفراد في هذه المناطق. فحياة الغني مبنية على البساطة والاكتفاء الذاتي لنفسه ولمن يعول، لا نصيب في ذلك غالبا للترف والرفاهية. ناهيك عن حياة المعدوم، فقد لا يتجاوز سقف أمله توفير: طعام اليوم – وعمل اليوم – وتنقل اليوم؛ مذكرّا إيانا بحياة الرعيل الأول زمن النبي عليه السلام “اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً –كفافا-“. “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”. ولم يبلغ هذا درجة الذي يكنز “إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ” “احرز لدنياك كأنك تعيش أبدًا”. ومن هنا فإن بدهيات بعض الدول وأساسها تعتبر ترفا بالغا في نظر مثل هذا المجتمع.

مجتمعٌ مكافِح

لا أدري أمِن شح مخرجات الأراضي الزراعية في هذه المجتمعات أو من غياب الوعي الضروري أو لشيوع الفوضى وعدم النظام أو لعوامل واستنزافات خارجية؛ يكثر التنافس والكفاح والجهاد في مثل هذه المجتمعات. فالشاي الإفريقي يبذل وسعه البالغ من الوقت والجهد والطاقة .. من أجل الحصول على المعاش، أكثر مما قد يحصل عليه غيره في مجتمعات أخرى بدون جهد. تجد أن أفراد هذه المجتمعات لا يعانون من ضعف جسماني، ولا من بلادة ولا من خور وكسل؛ فهم يجمحون ليل نهار لتأمين ضرورات الحياة.

الأسرة الممتدة

ومن سمات هذه المجتمعات أيضا ظاهرة الأسرة الممتدة، فيتكوّن كثيرٌ من الأسُر من الأب فصاعدا، والابن فنازلا، إضافة إلى الإخوة والأخوات، وليس على غرار ما عرفت به أغلب المجتمعات اليوم من رب البيت وزوجته وأبنائه، وقد يُمنّ على الأب أو الأم لو لزم. ولا شك أن حضور الكلمات الدينية الآتية: “صبر”، “صلة رحم”، “تعاون”، و”رفق” أكثر في مثل هذه المجتمعات من مجتمعات الأسرة الصغيرة.

يضاف إلى هذا أن أغلب أرباب الأسَرِ يلتزمون بالآية: “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.” ويحرصون مع كل واحدة من النساء على: “تناكحوا تناسلوا” “أنكحوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم”. ويكون الأب الأكبر بمثابة امبراطور البيت، إليه المرجع والمآب في إدارة البيت من أفراح وأتراح ومسؤوليات بما في ذلك شؤون الأحفاد وإن نزلوا. يضاف إلى هذا أن الغني غني بالاسم فحسب، حيث يلتف حوله كل الأسرة والعشيرة ويرون –كما يرى هو- أن ماله لهم جميعا ولهم الحق فيه؛ فتجب لهم عليه نفقتهم ونفقة من يعولون إن لزم!

ظاهرة المسؤولية المشتركة

رغم أن المسؤولية الأولى تقع في مثل هذه المجتمعات على الأب وهو المسؤول في إدارة الجبايا، إلا أن الكل مطالب بنصيب من المساهمة وفق طاقته، يزود إمبراطور البيت بذلك ويوضَع تحت تصرفاته. ولعل من هنا لا وجود لـــ “الأنا” أو الملكية الخاصة، ويذكرنا هذا بــالحديث “أنت ومالك لأبيك”. وانطلاقا من هذا يشترك الجميع في كل شيء، لا يحلم ابن من الأبناء أن يشتري لعبة لولده دون ولد أخيه -إلا خفية-. والطعام والشراب مشتركان بينهم. ولعل من عاش في مثل هذه المجتمعات يفهم بسهولة حديث الأشعريين “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ ثم اقتسموه بينهم في إناء واحدٍ بالسوية، فهم مني وأنا منهم” على أن الفرق هنا هو أن ذلك سمة وعادة من عادات تلكم المجتمعات لا في حالة غزو أو نزول حاجة وفاقة فحسب!

ظاهرة اشتراك الرجل مع المرأة في ميدان الحياة

ومما يبرز جليا في هذه المجتمعات عدم الفصل بين الرجل والمرأة، فهم معا في البيت (أبناء عمومة وخؤولة” ينشؤون على ذلك، ويتعايشون في الحي مع أبناء وبنات جيرانهم، ولا السيارات العمومية أو المدارس والمكتبات تفصل بينهم نظرا لطبيعة المجتمع نفسه وفق ما مضى، والسوق مشترك للجميع يبيع فيه الرجل مثلما تبيع المرأة، فالكفاح مشترك، وركوب الجنسين الدراجات النارية أمر حتمي في المجتمع.

وما قمت به في هذا المقال مجرد وصف وحكاية بناء على منهج قديم سُبقت إليه، ونقل هذا الواقع لا ينتج أي حكم يلزم أحدا. ما بقي هو كيف لنا أن نحسن الدعوة في هذا المجتمع، وكيف للمجتمعات الإسلامية الأخرى فهم هذه الوضعية المختلفة بعض الشيء واستيعابها، والقيام بدورهم ومسؤولياتهم الدينية من أجل التحسين في هذا الوضع؟ ثم هل يمكن أن نجعل خطابنا الديني حلا وعنصر إصلاح ونهضة وتطور، أم أننا نرى أن الإسلام في الروحانيات فحسب؟!