في خضم الغزو الفكري وبناء على صراع الحضارات، يمسك الغازي بعدد من الأدوات التي يحاول بها أن يفرض فكره وسيطرته على من يريد غزوهم، ولهذا نجد أن الشعوب المهزومة دائما تميل إلى لغة الغازي المنتصر، وفي الوقت الذي يسعى الغازي إلى نشر لغته وحضارته، نجد أن المهزوم يكون أكثر إقبالا على اللغة الوافدة، باعتبارها لغة الحضارة، بل ويحاول المهزوم إظهار سد عقدة النقص التي فيه بالحديث بلغة الغازي، ليس من باب العلم بلغات الآخرين، بقدر إظهار مواكبته للحضارة السائدة، فليست هذه دعوة لترك تعلم اللغات بل هي دعوة لاستعمال اللغة الفصحى مع تعلم اللغات الأخرى.

ولا يكتفي الغازي بنشر لغته فحسب، بل بمحاولة نشر اللهجات المحلية بين الشعوب المهزومة، حتى تسود الفرقة بينهم، ولا يجمعهم جامع اللغة المشتركة التي يتفاهمون بها.

ففي بعض الدول الغربية- على سبيل المثال- نجد أنهم يشجعون على تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها من أبناء الجيل الثاني والثالث، لكنهم يرفضون تدريس اللغة العربية الفصحى، وإنما يعلنون عن تعلم اللهجة المصرية، أو اللهجة المغربية، وهكذا، ويدعمون المراكز التي تعلم اللهجات، في حين يرفضون دعم المراكز التي تصر على تعلم اللغة الفصحى.

ولكن الأخطر هو انتشار تلك اللهجات بين الشباب، وترك اللغة الفصحى عمدا، واستعمال اللهجة العامية ليس في كلامهم وحواراتهم، بل في كتاباتهم أيضا، مما ينذر بالخطر على مستقبل استعمال اللغة الفصحى بين الشباب مستقبلا.

فمن المعلوم أن غالب الشعوب تتكلم اللهجة العامية، لكنها تحافظ على اللغة العربية الفصحى في المكاتبات الرسمية، وفي لغة الثقافة، سواء أكانت لغة العلم المتخصص أو كانت لغة الأدب، كما يُحافظ على الفصحى في الإعلام المرئي كالتلفاز والفضائيات- غالبا-، أو من خلال الإعلام المكتوب في الجرائد والمجلات ونحوها، بل وفي الإعلام الالكتروني غالبا.

لكن هناك توجه خاصة في الكتابات الأدبية أخذ ينحو نحو الكتابة باللهجة المحلية، فكتابات الشباب في الروايات والقصص القصيرة والشعر ونحوها من قوالب الأدب لم تكن تكتب إلى عهد قريب إلا باللغة الفصحى، مما ساعد في انتشار الأدب على مستوى القراء العرب في بلادهم وغير بلادهم.

أما الآن فهناك من يتخذ من اللهجة المحلية لغة الكتابة في الأدب، انطلاقا من التيسير على القارئ المحلي، وحتى يكون الكاتب أقرب إلى روح قراء بلده، وحتى يقدم شيئا جديدا، خفيفا على العقول!!!

لكن هؤلاء الكتاب من الشباب وغيرهم غاب عنهم كثير من الأخطار في استعمال العامية لغة للكتاب الأدبية والعلمية، من ذلك:

قصر انتشار كتاباتهم على القطر المحلي دون الإقليمي والدولي، فكتابات نجيب محفوظ والرافعي والمنفلوطي وإحسان عبد القدوس وغيرهم قد بلغت الشهرة والآفاق بسبب استعمالهم للغة الفصحى، بل وحضور اللغة البليغة باستعمال الصور البلاغية التي تزين اللغة وتخاطب وجدان القارئ، مما يفقد الكاتب باللهجة العامية كثيرا من الجمهور الإقليمي في العالم العربي، والجمهور العالمي من القارئين بالعربية في بلاد غير العرب.

ولما كانت اللغة وعاء للتفاهم، فإن استمرار كتاب كل قطر في الكتابة باللهجة العامية يفقد التواصل الثقافي والحضاري بين أبناء اللغة العربية حين يتحيز كل قطر محلي للهجته المحلية، ضاربا باللغة الأم عرض الحائط، مما يترتب عليه تقزيم الحضارة العربية، وتقسيمها إلى اتجاهات متفرقة لا يجمع بينها جامع.

والأخطر من ذلك أن اللغة الأم هي اللغة التي تشكل هوية الأشخاص في مجتمعاتهم، وعدم التزام اللغة الأم لغة للكتابة والتواصل الحضاري بين أبناء الحضارة الواحدة ما يعني ضعف تلك الحضارة، وتفكك تلك الهوية بين الشعوب التي كانت تجمعها هوية واحدة.

كما أن العناية باللهجة المحلية دون اللغة الأم يسهل الغزو الفكري، ويعمق نجاحه، مما يجعلنا فريسة سهلة من الناحية السياسية والاقتصادية فضلا عن الناحية الثقافية والفكرية، وهذا يسهل استغلال ثرواتنا ومواردنا من خلال ذلك الغزو الفكري.

إننا بحاجة إلى أن نقدم لغتنا العربية لغة يسيرة الفهم، سهلة الكتابة، ميسورة الحديث، يفهمها كل أحد، وبدلا من أن نتدنى بترك اللغة الفصحى واستعمال اللهجة العامية من باب التيسير، فإنه من الواجب علينا أن نرفع مستوى طلابنا وقرائنا، من اللهجة العامية إلى اللغة الفصحى، وذلك من خلال معايشة القرآن الكريم، والسنة المشرفة، ومن خلال تشجيع القراءة في التاريخ والأدب والحضارة وغيرها من العلوم والمعارف التي تسهم في رفع كفاءة اللغة الفصحى في حياتنا وكتاباتنا، مع تيسير الكتابة باللغة الفصحى.

وهي دعوة لكل كاتب أو باحث اتخذ اللهجة العامية وسيلة للتعبير عن أهدافه العلمية والأدبية أن يتراجع عن ذلك، وأن يستعمل اللغة الفصحى بطريقة سهلة تجعل من عموم الناس يفهمون ما يقرؤون دون عناء البحث عن معاني الكلمات الصعبة، فإنه من المعلوم أن لكل عصر قاموسه اللغوي، فالكلمات منها ما يموت، ومنها ما يولد، ومنها ما يبقى شامخا عبر الزمن.

ولكن من رحمة الله تعالى أنه حفظ اللغة العربية بالقرآن الكريم، ووفقا لمنظمة اليونيسكو فإن هناك سبعة آلاف لغة يتكلم بها الناس على وجه الأرض، تأتي اللغة العربية في الرتبة الرابعة ضمن أكثر عشر لغات انتشارا في العالم، فربما تمرض اللغة العربية في بعض العصور، لكنها محفوظة لا تموت، كيف تموت وهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة؟!

وما أحسن ما قاله الشاعر حافظ إبراهيم – رحمه الله- على لسان اللغة العربية تشكو هجرها ببعض ما قاله:

وسعت كتاب الله لفظا وغاية

وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

وتنسيق أسماء لمخترعات

ومن جميل ما كتبه الشاعر حمد بن خليفة عن اللغة العربية:

لغة القرآن يا شمس الهدى

صانك الرحمن من كيد العدى

هل على وجه الثرى من لغة

أحدثت في مسمع الدهر والصدى

مثلما أحدثته في عالم

عنك لا يعلم شيئا أبدا.

وجاء في قصيدة الضاد لصباح الحكيم:

أنا لا أكتب حتى أشتهر

لا ولا أكتب كي أرقى القمر

أنا لا أكتب إلا لغة

في فؤادي سكنت منذ الصغر

لغة الضاد وما أجملها

سأغنيها إلى أن أندثر

سوف أسري في رباها عاشقا

أنحت الصخر وحرفي يزدهر

فإلى أمة الضاد رمز العربية، حافظوا على لغتكم الأم، ولا تستسهلوا استعمال العامية في كتاباتهم.