قبل الحديث عن خيال الطفل يجب أن نعلم أنه حتى حدود القرن الثامن عشر، لم يكن الخيال يتمتع بسمعة جيدة، رغم أن أولى استخدامات المقابل اللاتيني imaginatio تعود إلى الفيلسوف أوغسطين، وكانت تشير إلى الصور المتوهمة للأشياء في العقل.

وفي القرن السابع عشر أبدى فلاسفة ك “هوبز” و”سبينوزا”، موقفا مرتابا إزاء الخيال، فتم ربطه بالهلاوس، وأحلام اليقظة. ومنهم من اعتبره نشاطا مراوغا، يسير في الاتجاه المضاد للتفكير المنطقي، أو في أحسن الأحوال وسيطا بين التفكير والإدراك الحسي. لكن كان هناك ما يشبه الإقرار بأهميته بالنسبة للبحث العلمي، من حيث صياغة الفرضيات، وتأسيس نماذج وبنى عقلية، تفتح آفاقا جديدة في مختلف فروع المعرفة الإنسانية.

يقول عالم النفس الروسي ليو فيجوتسكي: “إن الخيال هو الذي جعل منا بشرا”. والمقولة تنطوي على رؤية متفائلة، تجعل من الخيال موجها لخبراتنا بالعالم وليس العكس. من هذا المنظور تصبح مظاهر وتجليات الخيال في الطفولة مدخلا لفهم وظائفه وإمكاناته، ورصد ما يعكسه العالم الخيالي للطفل من توترات، وإحباطات، ورغبات.

 يربط فيجوتسكي ظهور الخيال بما يسميه الفجوة المثيرة بين رغبات الطفل والإشباعات المتحققة. لذا يلجأ إلى عالم الخيال للتنفيس عن إحباطاته. وتدريجيا يؤسس داخله بدائل تحرره من قيود الواقع. ويشكل اللعب الخيالي بموضوعاته وملحقاته، نموذجا حيا لقدرة الطفل التخيلية. وما نعنيه بالملحقات هي الأشياء التي يضفي عليها الطفل دلالة رمزية لا توجد في عالم الكبار، بحسب تعبير كاندال والتون، كالعصا التي تصبح فرسا، وقطع الأحجار الصغيرة التي يستخدمها الطفل بدائل للنقود في ألعاب البيع والشراء.

هذا اللعب الخيالي أو الإيهامي، يعتبره فيجوتسكي مناسبة ليقوم الطفل بأدوار تتطلبها حياته الواقعية. ومع مرور الوقت يبدأ الطفل بالاستغناء عن الوجود المادي للأشياء، مقابل حرصه على صياغة متقنة لعوالمه الخيالية، فيضع قواعد تنظم ممارساته الإيهامية بشكل يحاكي الواقع، مثل إخضاع الدمية للتوجيهات الخاصة بسلوك الأمومة.

يتشعب سلوك الطفل لاحقا ليعتمد على اللعب الإيهامي في مواجهة مشكلات مرتبطة بحياته اليومية. ويتم ذلك من خلال ترك مسافة تفصله عن الموضوعات للتعامل معها بشكل مختلف. ويكون الطفل في هذه المرحلة ميالا للعب الأدوار مع أقرانه، كتعبير دال على الصداقة، وقد ينخرط في أنشطة وهمية يُلمح من خلالها إلى وجود ما تسميه الباحثة سفيندسون ب “الرفيق الخيالي”.

ما بين سن الثانية والثالثة يفاجئ الطفل محيطه الأسري بشخصية غير مرئية، يطلق عليها اسما خاصا، ويخلق لها أقوالا وأفعالا وتفاصيل أثناء اللعب، وفي محادثاته اليومية. قد يكون هذا الرفيق مجرد نسخة افتراضية من أحد أصدقائه، أو بطل فيلم كرتوني، وأحيانا كائنا شديد الغرابة كدولاب ملابسه مثلا.

هذه الظاهرة التي ارتفعت نسبة حضورها لدى الأطفال إلى %65، تتنوع أسبابها ما بين الإيجابي المتصل بالإبداع، والذكاء، والقدرة على تركيز الانتباه؛ والسلبي الذي يعكس مشكلات نفسية وعصبية. غير أنها تنتهي بمجرد فقدان الطفل للاهتمام برفيقه، وحدوث تحول في نشاطه اللعبي ليصبح أكثر واقعية.

تعزز التكنولوجيا، من خلال ألعاب الفيديو والكومبيوتر، قدرة الطفل على إسقاط خياله في عالم مصطنع من المغامرة والأحداث المثيرة. بل هناك دراسات تؤكد أن هذه الألعاب تنمي لديه مهارات التفكير الناقد، وحل المشكلات، واتخاذ القرار. لكن في اتجاه آخر يثير الإقبال المتزايد عليها مخاطرَ لا تقف عند حدود المشاهد المتكررة للعنف، وإنما تمتد إلى فرق بالغ الحساسية بين خيال الطفل والخيال المصطنع للميديا. فبينما يحقق له الأول استعدادا لمواجهة عالمه الواقعي، يحفزه الثاني على الهروب والانسحاب من الواقع، وحرمانه من الحركة الإرادية أمام صناع آخرين لمستقبله.

إن خيال الطفل صنوُ واقعه، وهذا يعني أنه له وظائف اجتماعية محددة. فالنزعة الإحيائية التي تميز علاقة الطفل بالأشياء، من خلال معاملتها ككائن حي، تنطوي على جوهر الإبداع الذي يهدف إلى بعث الحياة في الصور والأشياء والعلاقات الجامدة. ولعل تعريف الإبداع بأنه:” إيجاد روابط غير مسبوقة بين الأشياء” تأكيد لهذه النزعة وضرورتها كنشاط إنساني.

“إن غياب الخيال المبكر، وليس وجوده، هو الدال على المرض”

د. شاكر عبد الحميد

ويتأسس التفكير الإبداعي لدى الطفل كذلك من خلال إدراكه المبكر لضرورة التمييز بين عالمين: عالم واقعي محكوم بقوانين السببية، وعالم متخيل وغير مرئي، لا تنطبق عليه تلك القوانين. وبالتالي يصبح وعيه بتعدد مستويات الواقع دعامة قوية للإبداع الفني، والابتكار، والتكيف السوي مع محيطه.

تقع على عاتق الأسرة مسؤولية تمكين الطفل من الخبرات التربوية والفنية التي تنمي قدراته الابتكارية. خاصة وأنه ابتداء من السنة الخامسة، تتخذ قدرته التخيلية منحى إبداعيا يمكن توجيهه وتنميته. ويأتي الوعي بأهمية الخيال في مقدمة الشروط التي تقتضيها بيئة تربوية مرنة وسمحة، يليه تحلي الوالدين بصفات ابتكارية، تحفز التساؤل والفضول والبحث.

وعلى الأسرة يقع أيضا واجب تقديم مثيرات متنوعة، تحفز الخيال الجامح للطفل، كالمجلات المصورة، وألعاب الفيديو المناسبة، والاحتكاك المبكر بالفضاءات المحفزة لملكاته، مثل حدائق الحيوان، والمتاحف، والمعارض.

ينقل الطفل حصيلة عوالمه التخيلية، وثمرة نشاطه الإيهامي منذ السنة الثانية من حياته إلى المدرسة. وداخل هذه المنظومة الحيوية والمعقدة يصبح التفتح العقلي للطفل مؤهلا لاستيعاب الروابط الممكنة بين الخيال من جهة، وبين أدوات العصر ومستحدثاته العلمية والتكنولوجية؛ لينشأ ما يسميه الباحثون بالخيال العلمي، والذي يعتبر الوسيلة المثلى للمزج بين الثقافتين الأدبية والعلمية.

يفقد الخيال التقليدي جاذبيته وأهميته لدى الطفل، لتحل محله منظومة متكاملة من التصورات، والحقائق، والمعاني التي صيغت في حقل العلم والتكنولوجيا، وتسعى لتحقيق الطموح البشري. ويستخدم الخيال العلمي في هذا المضمار لا باعتباره تحليقا بالخيال في المنجز العلمي، أو تبشيرا بآفاقه المستقبلية، وإنما بكونه مدخلا لتنمية التفكير الناقد ومهارة حل المشكلات، والتفكير البصري، بالإضافة إلى إقرار محتوى دراسي يلقن الطفل المفاهيم والحقائق العلمية بأسلوب مشوق.

ومن المضامين التي يقترحها الدكتور علي راشد في هذا الصدد نجد على سبيل المثال:

• العوالم البديلة في الكون الفسيح

• آلات السفر عبر الزمن

• الإدراك الفائق للحواس

• مدن الغد

• انتقال الجزيئات

• العلم الطائش

وفي ظل ما يعيشه العالم المعاصر من سبق وتنافسية، وسعي للانفراد بالرؤى والتصورات المبدعة لمواجهة مشكلاته، فإن تعزيز الأداء التعليمي بمخططات وبرامج تدريبية، لتوظيف خيال الطفل في زيادة قدرته على الإبداع، يعد أولوية بالغة الأهمية؛ خاصة وأن عددا من البرامج ثبتت فاعليتها في شحذ دافعية المتعلمين للإنجاز الخلاق.

ويعد نموذج رينزولي Renzulli أحد أكثر النماذج شيوعا، والذي يقوم على تحديد أنواع الخبرات التربوية التي تحقق للطفل المحافظة على ملكاته وتفوقه، من خلال مقترحات عملية وتطبيقية، تركز بالأساس على:

– توفير بيئة تربوية وإبداعية تساعد على تحقيق الأداء المتميز.

– تقديم برنامج متكامل، يستوعب الإمكانات المعرفية والوجدانية والسلوكية للطفل.

– عرض مشكلات تتسق مع ميول واهتمامات الطفل ليتفاعل معها، ويسعى لحلها.

– لابد أن يكون الفضاء العام للتعلم أقرب على جو المختبرات العلمية.

ويحدد رينزولي  في نموذجه ثلاث مستويات لتنمية الخيال الإبداعي للطفل، تتضمن:

– الأنشطة الاستكشافية العامة: وهي مجموع الخبرات التي تقدم للطفل في مجالات مختلفة، لاستثارة اهتمامه ورغباته.

– أنشطة تدريب الفرد أو الجماعة: وتشمل المواد والبرامج التي تتمحور أساسا حول تنمية المشاعر والتفكير، وتساعده للوصول إلى استنتاجات وتعميمات، بدل التركيز على محتوى التعلم.

– اكتشاف الفرد لمشكلات حقيقية وواقعية: وهي الأنشطة التي توضح الإنتاج الفعلي للطفل، باستخدام طرق البحث المناسبة.

دلت أبحاث جيرسيلد Gersild المنشورة في كتابه “سيكولوجية الطفل” على أن الطفل بإمكانه التخيل قبل أن يستطيع الكلام؛ مما يؤشر على وجود حوار خلاق بين العالم والإنسان، تتحقق فيه إرادته وحريته، وتبلغ مداها المنشود حين يستوعبها محيطه الاجتماعي بكل مكوناته. فالخيال، كما تصفه الكاتبة الأمريكية أورسولا لوغين، هو أداة العقل الأساسية، إنه وسيلة التفكير ليصبح الإنسان إنسانا، ويحافظ على أنسنته.