“النقد الذاتي” فضيلة خُلقية يستدعي حضورُها جملةً من القيم تتصل بالنهوض والتجديد والإتقان والشفافية، كما يؤدي غيابها إلى مراكمة الأخطاء وتكبد الخسائر وعدم الخروج من التيه! فكيف نتصور مفهوم “النقد الذاتي”؟ وما حظ هذا المفهوم من الفكر الإسلامي المعاصر، وأبرز الكتابات حوله؟ وهل “النقد الذاتي” مترسخ في واقعنا المعاصر؟ ولماذا يخشى البعض من النقد؟

هذه الأسئلة وغيرها طرحها “إسلام أون لاين” على الأكاديمي المغربي د. إسماعيل الحسني، أستاذ مقاصد الشريعة والفقه المعاصر بكلية الآداب، جامعة القاضي عياض في مراكش بالمغرب؛ ومن أهم مؤلفاته: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية: مفهومها، موضوعها، أعلامها. التجديد والنظرية النقدية: دراسة في خطاب التجديد الإسلامي في المغرب. الاختلاف والتفكير في القرآن الكريم. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للأستاذ علال الفاسي– دراسة وتحقيق. الاقتراض البنكي والاضطرار الشرعي. مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي. التفسير المقاصدي وعلم مقاصد الكتاب المجيد..

• القرآن مدح أولي الألباب لأنهم يستعملون عقولهم استعمالاً نقديًّا مستقلاً

• لا تجديد في الإسلام بدون العقلية النقدية لأن القول بالتجديد مستلزم للنقد

• النقد الذاتي أساس أي وعي بالذات وبالواقع الذي تعيشه ويؤطر وجودها

• بناء العقلية النقدية مسألة تربوية لها خلفيات تاريخية ومجتمعية موروثة ومقتبسة

• الشخصية الضعيفة تخاف من النقد لأنها لا تتحمل تبعات المساءلة والمحاسبة

فإلى الحوار:

ما تصوركم لمفهوم “النقد الذاتي”؟

لما كان عندي مفهوم “النقد الذاتي” وعيًا بالذات وبالواقع الذي يحتضنها، فإنه في تصوري عماد حياة الشخصية الإنسانية عامة وقوام حياة العالم أيًّا كان مجاله وأيًّا كان اشتغاله. الهدف من نقد الذات، بكل ما يعنيه من وعي دقيق بها وبواقعها، ليس مجرد هدف أخلاقي تحكمه رسالة دعوية، ولا هو مجرد خاطر وجداني ولا هو مجرد هاجس أدبي أو ذوقي؛ وإنما هو أساس وجودي يدفع بحياتنا في وجهة أكثر تطورًا وأكثر سدادًا. الفكرة النقدية قبل أن تهدي ثمراتها إلى الغير وقبل أن ترسل سهامها إليه، لتتبلور في المساءلة والمحاورة والمحاسبة والمراجعة والدعوة إلى التصحيح والتعديل، يجب أن تستفيد الذات أولاً وقبل كل شيء من آثارها؛ فيتجه صاحبها بالمساءلة والمراجعة وغيرها من الأدوات النقدية من تصحيح الأخطاء وتجاوز العطاب وتصحيح المسارات..

وعليه فإنني أتصور النقد الذاتي أساس أي وعي بالذات وبالواقع الذي تعيشه ويؤطر وجودها. فعلى قدر وعينا بذواتنا تكون محاسبتنا لها محاسبة مستمرة، وعلى قدر وعينا العلمي بواقعنا يكون تفاعلنا الإيجابي مع معطيات الواقع كما هو، وليس فحسب كما ينبغي أن يكون. وهذا النظر النقدي والعلمي نوع من أنواع السير أو النظر العلمي في ما خلق الله في الأرض لقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت: 20). وهو يُهيئنا إلى التفاعل الإيجابي مع الواقع الإنساني.

والحق إن هذا الوعي الذي يشكل أساس تصوري للنقد الذاتي مسنود بخلفية بمسألة الاعتراف بما كسبناه وما اكتسبناه. وبيان ذلك أن من أبرز مظاهر النقد الذاتي القدرة على الاعتراف بالفشل، باعتباره خطوة ضرورية تسبق أي لوم للآخرين يعيق تحقيق رغائبنا ويمنع تحقيق مقاصدنا. خطوة الاعتراف الصادق والذكي بالفشل في كل المجالات، أو في هذا المجال أو ذاك، خطوة مفصلية في ما ترومه الذات الإنسانية، وبدونها لا يكون لمفهوم “النقد الذاتي” المعنى الحي والمنتج؛ بل بدون هذا النوع من الاعتراف لا يمكن أن يكون النقد الذاتي قيمة أساسية مؤسسة لنظامنا الفكري والخلقي والمجتمعي.

كيف نتلمس هذا المفهوم في مصادرنا الإسلامية قرآنًا وسنةً؟

لا ننسى أن الدين الإسلامي طرح ويطرح نفسه في صورة دين جديد يدعو الناس إلى التفكر والتفكير ونقد ما تلقيناه، عبر سبل المراجعة والتحقيق والتعديل والتصحيح. لا يتعلق الأمر بالمرحلة القَبْلية على اعتناق عقائده، وإنما يشمل المراحل اللاحقة على الإيمان بعقائده وأثناء وبعد العمل بأحكامه التشريعية والأخلاقية المختلفة. وإن آيات الخطاب القرآني في هذا المضمار تعز عن الحصر، كلها تفيد ضرورة بناء العقلية النقدية.

ولما كان من أهم وظائف العقل التمييز، كالتمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، فقد كان من مرادفاته في القرآن الكريم لفظ اللب. لقد مدح القرآن الكريم أولي الألباب؛ لأنهم يستعملون عقولهم استعمالاً نقديًّا مبنيًّا على الاختيار المستقل، كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 17، 18). فاسم التفضيل في الآية الكريمة: {أَحْسَنَهُ} هو للدلالة على قوة عقولهم. قال الإمام ابن عاشور: “أثنى عليهم بأنهم أهل نقد يميزون بين الهدى والضلال، والحكمة والأوهام، نُظَّارٌ في الأدلة الحقيقية، نُقَّادٌ للأدلة السفسطائية”.

نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 100). فالمطلوب منا هو النظر في “عوالم الأشياء والأفكار والأشخاص” بناء على ما تكتنزه من صفات ومن معانٍ؛ فلا يبقى نظرنا مشدودًا فحسب إلى ما تظهر به، ولا يبقى فكرنا مقيدًا بما ترتسم به من أشكال براقة ومن مبانٍ خلابة ومن صور خداعة.

وعليه، لا تجديد في الإسلام بدون هذه العقلية النقدية؛ بل يمكنني أن أقرر بكل هدوء أنني كلما تأملت مفهوم التجديد في الإسلام، اقتنعت اقتناعًا راسخًا أنه فكر نقدي تتحدد أطره المنهجية وتبنى معارفه العلمية بنظرية يجب أن نستحضرها، بهذه الدرجة أو تلك، في تجديدنا لخطابنا ولسلوكنا الإسلامي. فالقول بالتجديد مستلزم للنقد من أهله، بل تستدعي ممارسته من علماء الإسلام بناءَ نظريةٍ نقدية. والأهم فيها هو في مدى انطوائها على خطاب تجديدي يستلزم بطبيعته المراجعة المستمرة للأساليب، والتحقيق الدؤوب للمذاهب والأفكار.

وعلى كل حال، فإن النقد، والتجديد، والنظرية النقدية، من المفاهيم المتلازمة والمتساندة التي يأخذ بعضها برقاب بعض في خطاب التجديد الإسلامي. وهذا أمر سبق لي أن عالجته في كثير من دراساتي ومنها كتابي (التجديد والنظرية النقدية) الصادر عام 2005م.

وما حظ مفهوم “النقد الذاتي” من الفكر الإسلامي المعاصر، وأبرز الكتابات حوله؟

نحن المسلمين انتبهنا إلى تأخرنا عن غيرنا وعن تصورنا لما كنا عليه في ماضينا، وانتبهنا أيضًا إلى انحطاطنا؛ فطرح مفكرونا ذلك السؤال النقدي الثقيل، الذي طرحه شكيب أرسلان وجعله عنوان كتابه الشهير (لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟). تتابعت انطلاقًا من كل ما سبق الكتابات العربية الإسلامية في تفسير عوائق التقدم وموانع النهوض. كما أسهمت الهزائم والنكبات، التي عرفها العرب والمسلمون طوال القرن العشرين، في الرفع من مقادير المحاسبة الذاتية ومن منسوب المراجعة والتصحيح، بل وصلت إلى الأخذ بجرعات من النقد القاسي على الذات بعد ما حصلت الهزيمة المدوية للجيوش العربية عام 1967م، ولا زلنا في أحداث متوالية إلى يوم الناس هذا..

وعلى كل حال، نستحضر في هذا المضمار كتابات مالك بن نبي خاصة عندما يتحدث عن ما يسميه بـ”القابلية للاستعمار”، ونستصحب أيضًا كتابات خالد محمد خالد خاصة كتابه (من هنا نبدأ)، ونذكر أيضًا ما كتبه الأستاذ حسن الهضيبي (دعاة لا قضاة)، ونشير أيضًا إلى ما كتبه الأستاذ خالص جلبي حول موضوع (في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية)، ولا ننسى أيضًا ما كتبه الأستاذ جعفر إدريس في كتابه (نظرات في منهج العمل الإسلامي)، كما نذكر ما كتبه الأستاذ خالد حسن في كتابه (الحركة الإسلامية في الجزائر: دعوة لمراجعة الرصيد وتقويم المسيرة)، كما ننبه إلى ما كتبه الأستاذ كمال حبيب في كتابه (الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة)، ولا ننسى أيضًا ما كتبه الأستاذ عبد الله النفيسي في كتابه (الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية؛ أوراق في النقد الذاتي).

كيف ترصدون إسهام الأستاذ علال الفاسي في هذا الصدد؟

الكتابات السابقة أعمال مهمة؛ إذ أجهد أصاحبها أنفسهم في نقد مسارات الحركات الإسلامية؛ فرصدوا استراتيجيتها العلمية، وشخصوا آفاتها العملية وأعطابها الفكرية ومظاهر الخلل في مسيرتها، كما حددوا ملامحها العامة فضلاً عن توقعهم لمآلاتها ولأحوالها المستقبلية. كلها كتابات تشي بقدرة معتبرة من الوعي بأهمية ممارسة النقد الذاتي، وضرورة ممارسته في حياتنا الإسلامية بصفة عامة، وفي حياتنا المجتمعية والثقافية بصفة خاصة. نعم لا شك في ذلك، لكنها تغفل أو تتغافل عن كتاب (النقد الذاتي) لفضيلة العلامة الأستاذ علال الفاسي رحمه الله.

يعد كتاب (النقد الذاتي) للعلامة علال الفاسي، رحمه الله، من أبرز المتون العلمية المعاصرة التي تدعو إلى استئناف ممارسة النقد الذاتي. والجدير بالتنبيه عليه أنه لا زال لهذا الكتاب حضور مستمر تعكسه أوضاعنا، ومنها أوضاعنا في المغرب الراهن؛ وهذا واضح في ما تضمنه تصدير الكتاب، وفي ما اكتنزته أبوابه الأربعة فضلاً عما انطوت عليه خاتمته.

يلح الفاسي من خلال تصدير الكتاب على أهمية التلقي النقدي لما يصدر عن غيرنا، سواء كان هذا الغير متعاطفًا ومتحزبًا أم كان خصمًا وعدوًا. نحن أبناء القرن الحادي والعشرين أشد احتياجًا إلى هذا التلقي النقدي الذي نتعلم من خلاله كيف نفكر، وكيف نحاور، وكيف نستمع إلى غيرنا بنوع من الفهم والتفهم. وأكتفي هنا بالإشارة إلى ما تضمنه الباب الأول من هذا الكتاب والموسوم بـ”مسائل الفكر”. يلح الفاسي في هذا الباب على توجيهين نقديين ثمينين، ليس فقط لأن في خيوطهما تنتظم فصوله الخمسة عشر، وإنما لأننا لا زلنا في أشد الاحتياج إلى استيعابهما واستلهامهما في ممارساتنا العلمية والعملية. يتعلق أولهما بالأنانية، ويتصل الثاني بما ينبغي أن يتصف به تفكيرنا.

ويميز الفاسي من خلال التوجيه الأول في الأنانية بين اعتبارين: أحدهما سلبي والثاني إيجابي. إذا نظرنا إليها من زاوية الاعتبار الإيجابي فلا نكتفي بالاعتراف بها باعتبارها غريزة إنسانية، وإنما نجهد أنفسنا على مراقبتها ومحاسبة صاحبها لأن ذلك هو الطريق إلى عظمة النفس الإنسانية. شعارنا في هذا الاعتبار الأخير هو ما نظمه الشاعر في بيته المشهور:

تَأَخَّرتُ أَستَبقي الحَياةَ فَلَم أَجِد
لِنَفسي حَياةً مِثلَ أَن أَتَقَدَّما

أما الأنانية من زاوية الاعتبار السلبي فهي تلك الذات الإنسانية التي نتركها تتغول فيتحقق من خلالها طغيان الإنسان على غيره. وهذا “الطغيان الأناني هو مصدر كل النقائص الاجتماعية التي نحس بها في وسطنا، ونلمسها في بلاد أخرى غير بلادنا”. لا بد من التحليل العلمي لواقع هذه الذات، كما هو موروث من الماضي، وكما هو مشكل من الحاضر. لا مجال في هذا التحليل للعواطف والأماني والانفعالات التي قد تشكل خطبًا بيانية طنانة، ولكنها لا تنتج فكرًا شموليًّا وتاريخيًّا ونقديًّا. وعلى كل حال، إن هذا التمييز ضروري لأن مجتمعنا في أشد الاحتياج إليه؛ إذ لا زالت تسود العلاقات بين أفراده وجماعاته ومؤسساته نزعات الانتفاعية والوصولية والانتهازية وحب الذات الشخصية.

ويلح الأستاذ الفاسي من خلال التوجيه الثاني على اتصاف الفكر بجملة من الخصائص:

الأولى: خاصية الاتصاف بالحس الاجتماعي؛ فالمقصود بالتفكير الاجتماعي “التفكير بالغير والعناية بأحواله والعمل على إصلاحها”. والحق أن هذه الخاصية تكاد تكون شبه غائبة عن محيطنا؛ لأن تكوينها داخل بنائنا المجتمعي وترسيخها في تفكيرنا، يحتاج إلى تربية مستمرة لم نقطع بعد في عالمنا العربي أشواطًا معتبرة في تكوينها وترسيخها.

والخاصية الثانية: اتصاف الفكر بوصف الشمول؛ ومن أروع النصوص المعبرة عن وصف الشمولية ما جاء في سياق حديث الفاسي عن كيفية دراسة المشاكل الاجتماعية، إذ قال: “إن المشاكل الاجتماعية آخذ بعضها برقاب بعض، وأنه إما أن يقضى عليها جميعًا ويحتاط من أسباب العودة للوقوع فيها بعد ذهابها، أو تبقى قائمة لا مناص من آلامها. فتقليل عدد المرضى بمعالجتهم لا يضمن لهم أنفسهم عدم الوقوع في المرض ثانية، فضلاً عن أنه لا يمنع من إصابة غيرهم بالداء؛ ولذلك فالوقاية العامة أفضل من المعالجة كما يعبّر الأطباء. وتأسيس بعض المدارس لا يكفي لحل مشكلة الأمية في المجموع، وهناءة طبقة ما لا تسد حاجات الطبقات الأخرى. والقضاء على الجهل والأمية تمامًا لا يكفي إذا لم تصحبه تربية عامة وتكييف ذهني وإعداد للحياة. إن كل مشكلة تتضمن في طيها عديدًا من معضلات المجتمع؛ فالطلاق مثلاً يقدر أن يحمل في باطنه الأرامل والمومسات والأميين والمتسولين والعاطلين عن العمل. والحرب تستطيع أن تحمل معها ذلك وأضعاف أضعافه من مصائب وأمراض”.

والخاصية الثالثة: خاصية اتصاف التفكير بالواجب، الذي يجعلنا نعيش للمجموع ونحيا لخدمة الأمة. والرابعة: خاصية التخطيط؛ الذي يجعل العمل خاضعًا “لتفكير سابق وتدبير محكم وتنسيق مقدور وقضاء موقوت”.

وكلها خصائص يجب أن يتصف بها فكرنا النخبة ولا زلنا في أمس الحاجة إليها. لذا وجب علينا نحن الذي نرفع شعار الفكر وندعو إلى ممارسته أن نسعى إلى تعميم التفكير وأن نعود أنفسنا على قبول مبدأ حرية التفكير، لأن “الذين يطالبون بحرية التفكير لغيرهم يجب أن يكونوا هم متحررين أولا”.. وفي هذا المضمار يخاطبنا كتاب النقد الذاتي- و كأن صاحبه لا زال حيًّا يرزق في راهننا- بأن يقوم تفكيرنا على أمرين؛ أولهما: التمييز بين ما هو عصري وما هو معاصر. والثاني: مراعاة شروط الفكر الصحيح كخدمة المجتمع والانتماء إلى الأمة، والاستجابة لحاجاتها ورغباتها والتقدم نحو مثلها العليا. (يراجع للتوسع في ذلك كتابي التجديد والنقد الذاتي)

هل “النقد الذاتي” مترسخ في واقعنا المعاصر، فكرًا وسلوكًا؟

يلتمس المرء الجواب الواضح عن سؤالكم من خلال واقعنا. كل امرئ موضوعي ونزيه يلحظ غيابًا شبه كلي لهذا النوع من الممارسة في معظم تعاملاتنا، وفي معظم أساليب تفكيرنا، وفي أغلب مقاييس وأطرنا الفكرية والمجتمعية. والشواهد على ذلك تعز عن الحصر.

إذن، ما أسباب غيابه أو عدم حضوره بالدرجة الكافية؟ وكيف نستعيده؟

أصعب وأبطأ تغيير هو التغيير الذي يكون في مستوى ثقافة الناس وفي مستوى عقلياتهم وذهنياتهم. بناء العقلية النقدية التي تعلم وتتعلم كيف تنتقد وكيف تفكر وكيف تحاور وكيف تتحاور، مسألة تربوية لها خلفيات تاريخية ومجتمعية موروثة ومقتبسة. بناء هذه العقلية النقدية لا يتوقف دائمًا وحسب على الإرادة السياسية الصادقة والذكية؛ لأن هذا البناء مسلسل، تارة يتقدم خطوات جبارة إلى الأمام وتارة أخرى يرتد ارتدادات إلى الوراء بسبب ثقل الكوابح، التي تجرنا إلى الجمود عوض التدافع الخلاق، والتي ترجع بنا إلى التطرف المقيت عوض التوسط المحمود.

لماذا يخشى البعض من النقد؟

تخاف الشخصية الضعيفة من ممارسة النقد لأنها شخصية جامدة لا تتحمل تبعات المساءلة والمحاسبة، لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 206). والحق أن في الآية فكرًا نقديًّا يشير إلى تهرب هذا الصنف من البشر من المحاسبة والمراجعة والمساءلة.

يخشى الضعيف من ممارسة النقد لأسباب متعددة يعز حصرها في هذا المقام. يكفي أن نذكر منها السبب المتمثل بالجمود، بكل يقتضيه من غياب وتغييب ما سماه القرآن الكريم بـ”التدافع”.

الشخصية الإنسانية في الإسلام شخصية متدافعة؛ إذ تتدافع في حياتها سواء في مقام المنازلات العسكرية عندما تتعرض لعدوان يهدد وجودها وقيمها ومصالحها المشروعية والشرعية، أو في مقام المنازلات السلمية التي تقتضي الدفع بالتي هي أحسن مع المخالف ومع غير المخالف.. مع المخالف لأنه يُرجى بها أن تتحول علاقته بنا من حال العداوة إلى حال الموالاة، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34). ومع غير المخالف لأن التدافع بالنسبة لهذه الشخصية لا يعني دائمًا التصادم، الذي يروم مصارعته وتخريب عمرانه واستئصاله من الوجود في الأرض؛ وإنما يعني أيضًا التنافس الذي يهدف إلى التعايش الذي يروم صاحبه مساكنته حتى ولو كان معاديًا لنا. وهكذا يدعونا القرآن الكريم إلى أن ندفع بالخصلةِ الحسنة- ممثلة في الصفح والعفو- السيئةَ؛ كما في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} (المؤمنون: 96).

إن التنشئة الاجتماعية على قيمة التدافع مسألة أساسية في بناء العقلية والممارسة النقدية. فعلى سبيل المثال إن الذي ينشأ في ضوء اتساق قوله مع فعله وتناغم ظاهره مع باطنه وتوافق شعاراته مع ممارساته، ليس كالذي مرد على التناقض ومرن عليه ودرب به؛ كما في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101). وإن الاتساق، التناغم والتوافق، من قبيل المقاصد التي لا تتحقق بالطفرة؛ وإنما يتدافع الإنسان وبالتدريج طوال حياته لنشدانها والظفر بها. ولذلك صور اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية وفنية يطول بنا المقام لو فصلنا فيها قولنا.

وعلى كل حال، بالتدافع يكون التوازن الذي يتناغم مع التعارف، باعتباره مقصدًا من المقاصد التي يستهدفها الشارع من خلق الناس مختلفين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13). وبالتربية على التدافع السلمي يكون اتساق الفرد وهيئته الاجتماعية مع سنة الاختلاف؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119).

كيف نفصل بين “نقد الفكرة” و”نقد الشخص”، حتى لا يكون الأول مُستلزِمًا للثاني بالضرورة، وبالتالي نتخفف من حدة رفض النقد؟

نحن نميز بين ما نراه خيرًا وشرًا وبين ما نعتقده نافعًا ومضرًا؛ وفي هذا الإطار استمد فقهاء الإسلام لفظة التمييز، ويعنون بها مستوى يبلغه الإنسان يصبح من خلاله قادرًا على تمييز النافع من الضار، وتمييز الشر من الخير.

ونحن نميز بين ما هو منقول من معارف إنسانية، وما هو غير منقول من معارف إنسانية.. ونميز في عقائدنا بين ما هو حق يتسق ومقتضيات ما نؤمن به، وما هو باطل يتنافر مع مقتضيات إيماننا.

نحن نقيم حياتنا على هذه التمايزات وعلى غيرها؛ ومنها هذا التمييز الذي تفضلتم بطرحه: “نقد الفكرة” و”نقد الشخص”. نقوم بذلك حتى نحفظ لصاحب الفكرة البانية أو غير البانية حقه في الاختلاف عنا وفي مخالفتنا من الناحية الإنسانية. ويعجبني كثيرًا في هذا الصدد قول الفقيه المفكر محمد بن الحسن الحجوي، صاحب كتاب (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي): “النقد لا يستلزم النقص”. عندما نسائل وعندما ننتقد وعندما نراجع، فلا يعني ذلك أننا ننتقص من نراجعه ومن نسائله.