قد تبدو العلاقة بين الطب والأدب علاقة غريبة بعض الشيء، فأحدهما يعالج الجسد والآخر يخاطب الروح، وهما عالمنا مختلفان! لكن عند التدقيق أكثر نكتشف ما بينهما من صِلات ووشائج! و في حوار لـ “إسلام أون لاين” مع الطبيب الأديب منير لطفي، نتعرف على ظاهرة “الأطباء الأدباء” وأبعادها، بجانب التعرف على تجربته الذاتية في الجمع بينهما، وفي الإنتاج الأدبي والفكري.

الدكتور منير لطفي، مصري، من مواليد محافظة الدقهلية عام 1965، وتخرج في كلية طب المنصورة عام 1989م، وله عشرات المقالات في الطب والأدب والثقافة العامة، ومن كتبه: أطباء فوق العادة. رحلتي مع مرض السكّري. حياتنا بعد الستين. بستان العافية. مشاهير في ذاكرة المرض. طريقك إلى التميّز. على خطى لقمان. معًا نرتقي. مقامات أبقراط. مفاتيح القراءة. فإلى الحوار:

  • الطب والأدب ميدانهما واحد، الإنسان، يسبران غوره ويشخصّان حاله
  • الظاهرة في القديم أوضح، لضيق رقعة المعارف وسهولة الجمع بينها
  • الطبيب يتمتع بميزة تنافسية وأفضلية نسبية حال ممارسته الأدب
  • ما يحتاج وقتًا أطول من الكتابة، هو التمهيد لها عبر قراءة مضنية
  • أنصح الطبيب الأديب بعدم التخلي عن المهنة وإلا أدركته “حرفة الأدب”!

نلاحظ اتجاه أطباء كثيرين لعوالم الأدب، شعرًا وقصة ورواية.. لماذا؟ مع أن المفترض أنهما- الأدب والطب- ينتميان لجنسين مختلفين؟!

من الوجهة النظرية، نعم، الطبّ علم والأدب فنّ، والطبّ يحتكم إلى التجربة والدليل بينما يرتكز الأدب على الخيال والمجاز، والطبّ يسكن نصف المخ الأيسر بينما يقطن الأدب النصف الأيمن.. ولكن الواقع العملي يهدم هذا المعبد ويعيد ترتيبه؛ فالطب فنّ كما الأدب فنّ، والعِلم المفتقِر إلى الخيال ينقصه الجمال، وكلا نصفي المخ لا يعيش في جزر منفصلة بل يعمل جنبًا إلى جنب وكتفًا بكتف.

والثابت، أنّ الطب والأدب ميدانهما واحد وهو الإنسان، يسبران غوره ويشخصّان حاله ثمّ يطبّبانه ممّا علق به من شوائب، صحيح أنّ الطب يبرئ البدن والأدب يبرئ الروح، ولكنهما في نهاية المطاف يرتبطان بصلة وظيفية ونفسية، ويصنعان معًا حالة العافية المثلى المبتَغاة. ولهذا قال الطبيب والأديب البريطاني سومرست موم بأن دراسة الطب خير تهيئة وإعداد لحياة الأديب، ثمّ أوصى أدباء عصره بأن يعملوا لبعض الوقت في مستشفى ليقتربوا أكثر وأكثر من معاناة البشر، على اعتبار أنّ مَن سمع ليس كمَن رأى.

هذا لا يعني أن ارتباط الطب بالأدب ضربة لازب، وأن بمقدور كلّ طبيب أن يكون أديبًا؛ إذ تبقى الموهبة هي رمّانة الميزان، وبدونها لا أدب ولا يحزنون حتى لو اعتلى الطبيب قمّة الطب وكان فيه بمنزلة جالينوس وأبقراط!

وهل هذا الاتجاه من الكثرة بحيث يشكل ظاهرة، أم هو محصور في عدد قليل؟

بل هو ظاهرة من حيث الانتشار والرصد؛ فمِن حيث الانتشار؛ نرقبها واضحة للعيان، أفقيًّا على امتداد جغرافيا الشرق والغرب، وعموديًّا على مسار التاريخ القديم والوسيط والحديث.

ومن حيث الرصد؛ نرى تنقيب الباحثين فيها وتقليبها ظهرًا لبطن، وانظر في ذلك (معجم أدباء الأطباء) لمحمد الخليلي، وكتاب (الأطباء الأدباء) لفخري الدباغ، وكتاب (أطباء أدباء) لعبد الجبار ديه، وكتاب أعلام (الأطباء الأدباء في دمشق) للخربوطلي، عدا عن ندوات ومقالات عدّة تناولت هذا الاتجاه وتلك الرابطة، وهو ما تمخّض عن مؤتمر عالمي للأطباء الأدباء عُقد في منتصف القرن الماضي (1956م) بمدينة سان ريمو الإيطالية، وتشكّلت في عقبه جمعيات وأندية غربية تخصّ الأطباء الأدباء.

هل لهذه الظاهر جذور في تراثنا، وتراث الآخَرين عمومًا؟

نعم، وأظنها في القديم أوضح، نظرًا لضيق رقعة المعارف آنذاك وسهولة الجمع بينها فيما عُرف بموسوعيةٍ باتت من الصعوبة بمكان الآن في عصر التخصّص وتخصّص التخصّص. أضف إلى ذلك أنّ حذق أجدادنا الأوائل في اللغة جعلهم يتعاطون الشعر كخبز يومي، ومنهم الأطباء الذين دوّنوا الطبّ على هيئة متون شعرية يسهل حفظها وتلقينها.

وعلى سبيل المثال، نذكر ابن زهر الأندلسي الشاعر وطبيب دولة الموحّدين في المغرب، وابن دانيال طبيب العيون الموصلي والشاعر أيضًا، وأميّة ابن الصلت الشاعر الشهير كان طبيبًا أيضًا، وابن ماسويه الطبيب الذي ترجم للدولة العباسية كتب اليونان، وتلميذه حنين بن إسحاق الذي نقل إلى العربية ما كتبه جالينوس، وأبو يوسف الكندي الذي حذا حذو أرسطو في الفلسفة وتبحّر في المعارف اليونانية والفارسية والهندية حتى اعتُبر فيلسوف العرب الأوّل. أمّا الرازي وابن سينا وابن حزم وابن رشد وابن أبي أصيبعة، فهم أشهر من نار على علم، بعدما جمعوا بين البيان والبرهان، وسار بعلمهم الركبان وطبّقت شهرتهم الآفاق.

هل هذا الاتجاه يبين أن الإنسان- روحًا وجسدًا- وحدة واحدة؟

هو يؤكد وحدة المعارف التي انبثقت جميعُها من رحم الفلسفة المعروفة قديمًا بأمّ العلوم، ويؤكّد أيضًا أنّ الروح مع الجسد هما جماع النفس الإنسانية وملاك الذات البشرية، وأيّة مقاربة لأحدهما دون الآخر حيْف وغبن واعتساف، ومن هنا جاء تعريف السعادة بأنها روح سليمة في جسد سليم.

والحقيقة، أنّ طبيبًا يعالج المرض لا غير، يفتقر إلى الحكمة، وأقرب ما يكون إلى “ميكانيكي” يصلح آلة معطوبة، بينما الطبيب الحاذق يعالج إنسانًا ذا جسد وفكر وروح، ويذهب أبعد من الحمّى والسعال والإسهال، ليداوي فكرة سقيمة رسخت في الذهن، وروحًا متعَبة تقف على شفا جرف هار، قبل أن يسطّر وصفة تبيد ميكروبا نخر العظم أو فيروسًا فتك بالرئة؛ إذ إنّ الصحة وفقًا لتعريف منظمة الصحة العالمية: حالة من اكتمال السلامة البدنيّة والعقلية والاجتماعية وليست مجرد غياب المرض وانعدام العجز.

مَن أبرز ما ترصد في هذا الصدد؟

أرصد سيّد القصة القصيرة المعاصرة في العالم، الروسي أنطون تشيخوف. وصاحب الريادة في أدب الخيال العلمي، الأمريكي مايكل كرايتون. والاسكتلندي آرثر كونان دويل، مبتكر الشخصية الروائية الشهيرة شرلوك هولمز والتي طغى اسمها على اسمه وكانت كالدبّة التي أكلت صاحبها. ومؤلّف الرواية الأكثر مبيعا (عدّاء الطائرة الورقية)، الأفغاني الأصل والأمريكي الجنسيّة خالد حسيني.

كما أرصد أبا حيان التوحيدي الجديد على قول أنيس منصور، وهو طبيب العلم والإيمان مصطفى محمود. وصاحب الأطلال، إبراهيم ناجي. ونجيب محفوظ سورية، عبد السلام العجيلي. ورائد الأدب الإسلامي، نجيب الكيلاني. والعرّاب الذي جعل الشباب يقرأون ويكتبون، أحمد خالد توفيق.. وذلك غيض من فيض ونقطة في محيط!

من واقع تجربتك الذاتية.. متى بدأت الاتجاه لعالم الكتابة؟

إذا اعتبرنا الخربشات الأولى كتابة، ولا أظنها كذلك، فيمكن اعتبار سنّ الرابعة عشرة تقريبًا هي ضربة البداية، وأذكر منها مقاطع زجليّة على نهج العمّ بيرم التونسي، دوّنتُها على وقع مشاهدتي جارًا لي يدخّن خلسة من خلف ظهر أبويه! واقتعدتُ فيها مقعد المحذِّر الناصح المتحسِّر. وأذكر أيضًا بضع قصص قصيرة عن (كُمثَري) متجهّم وحافلة عامة متهرّئة ومعلّم ساخط، وكلّها كما ترى أسيرة الوسط الضيّق المعاش وتبني على ما يُعرف بالمدرسة الواقعية التي أصطفيها وأفضّلها على مدرسة الخيال.

والواقع، أنّ هذه الخربشات لم تخلع نقابها وتسفر عن وجهها إلّا عبر الإذاعة المدرسيّة ومجلّات الحائط ومنتديات الأصدقاء، والمرّة الوحيدة التي ابتلعتُ فيها “حبوب الشجاعة” كانت وقتما أرسلتُ إحدى القصص إلى برنامج أدبي في إذاعة “صوت العرب” العريقة لإذاعتها ضمن مختاراتهم القصصية، ولا أدري مصيرها إلى الآن.

أمّا البداية الحقيقية للكتابة، كما أراها، فلا يتجاوز عمرها العشر سنوات، وهي العَشرية التي واكبها النشر الورقي، وتخلّلها نشر إلكتروني غير قليل عبر المدوّنات والمواقع والصحف والمجلّات الالكترونية، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي نحجِل فيها من آونة لأخرى. 

وما أهمّ أعمالك؟ ومحاورها؟

بدأتُ قبل خمس سنوات بنشر كتاب (أطباء فوق العادة)، والذي صُنّف على أنه تراجم مختصرة، وحوى مقاطع طولية وعرضية لمسيرة أطباء من شتى أنحاء العالَم، بعضهم برز في دوحة الأدب وبعضهم سطع في أروقة السياسة والبعض الآخَر تاجر مع الله في ميدان الدعوة. ثم توالت الإصدارات كلّ عام بواقع كتابين أو ثلاثة، حتى وصل عددها عشرة كاملة تتداولها أيدي القراء عبر نوافذ ستة دور نشر مصرية وعربية.

فيها ما ينتمي إلى فئة الطب والوعي الصحي، مثل (رحلتي مع مرض السكّري، حياتنا بعد الستين، بستان العافية، مشاهير في ذاكرة المرض). ومنها ما ينشد التنمية الذاتية والتربية الإيمانية، مثل (طريقك إلى التميّز، على خطى لقمان، معا نرتقي). ومنها ما أخذ على عاتقه إحياء فنّ أدبي باذخ كاد يندثر وهو فنّ المقامة الأدبية عبر كتابي (مقامات أبقراط)، إضافة إلى كتاب (مفاتيح القراءة) الذي يفتح الزاوية على ما سبق من تصنيفات ويضيء السبيل أمام راغبي الثقافة ومرتادي روضتها.

والبقية تأتي بحول الله، سواء ما يُقاسي المخاض الآن داخل رحم المطابع ولعله يلحق بالدورة الثانية والخمسين لمعرض القاهرة الدولي المنعقِد حاليًا وسط جائحة كورونا العاتية، أو ما يرقد حبيس الأدراج على أمل رؤية النور عمّا قريب، وفي هذا أسأل الله السداد والتيسير، وأرجو من ورائه النفع والأجر.

كيف توفّق بين عملك بالطب، الذي بطبيعته يشغل مساحة واسعة، وبين الإنتاج الفكري والأدبي؟

لا مهرب من مغالبة الوقت؛ ومثلي في ذلك مثل طبيب الأطفال وشاعر الحداثة الأمريكي ويليام كارلوس وليامز، فبين زيارة مريض وآخَر، كان يهرع إلى آلة كاتبة بجواره ليسطّر أبياتًا من قصيدة اختمرت في ذهنه والتمعت في سماء قريحته، وأحيانًا يكتب قصائده على ظهر أوراق الوصفات الطبية بينما يُغلق باب العيادة وراء مريض ويفتحه أمام آخَر. كما لا بد من خَصْم يسري على العلاقات الاجتماعية؛ إمّا بالتهذيب والاختصار، وإمّا بالحذف دونما شقاق.

في العيادة أكتب وفي البيت أكتب وفي السيارة أكتب وفي المسجد أكتب، وفي الإجازة والأعياد أيضًا أكتب، وبينما يستجمّ غيري على الشاطئ أو يسامر أصدقاءه في سهرة ويجامل أقرباءه في مناسبة، فإنك واجدٌ إيّاي بين دفاف الكتب تجاملني وأسامرها وأستجمّ على شاطئها. وربما لهذا السبب عدّ الزميل الروائي أمير تاج السرّ الكتابةَ معاناة حقيقية كمعاناة مرض الضغط والسكّري وتمنّى لو لم يكن كاتبًا.

والحقيقة، أنّ ما يحتاج وقتًا أطول من الكتابة، هو التمهيد لها عبر قراءة مضنية وبحث جادّ يجول بك في دهاليز المعرفة المتشعّبة، علمًا وأدبًا وفلسفة ودينًا. ويبقى توفيق الله تعالى هو فصل الخطاب وكلمة الحسم، ولولاه لَـمـا أنجزتُ في الكتابة شروى نقير.. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).

هل هناك رمز في هذا الاتجاه تتخذوه قدوة؟

قد لا يوجد رمز بعينه، ولكني أستحضر في مخيّلتي موسوعيّة وأنفة قلم عباس محمود العقّاد، وسخرية المازني والبشري، وحرارة إيمان كتابات الشيخ الغزالي، وطلاوة عبارة محمد رجب البيومي، وعذوبة يراع زكي مبارك وخالد محمد خالد والزيّات، وإنسانية طرح ميخائيل نعيمة، وحميمية حرف عبد الوهاب مطاوع، وطراوة ولطافة سطور الشيخ علي الطنطاوي…والاسترسال في ذلك يطول.

وبالمجمَل، أجدني متيَّما بالشّاعر حين يكتب النثر، وبالأديب حين يسخّر أدبه في خدمة الدعوة، وبالعالِم حين يلطّف جفاف العلم برائق الأدب وحرير اللّغة، وبالكاتب يكتب وعينه على الآخرة قبل الدنيا؛ فبهذا وحده يمكن اقتناص وجبة دسمة سائغة، تغذّي القلب والعقل والروح معًا.

هل مجالك الطبي يفيد في عملك الإبداعي، ويفتح نوافذَ لا تنفتح لغير الأطباء؟

من حسن الطالع أن الطبيب يتمتع بميزة تنافسية وتمييز إيجابي وأفضلية نسبيّة حال ممارسته للأدب؛ ففي باحات الحياة بشتى ضروبها نلتقي البشر مقنَّعين بأقنعة من مال أو جاه أو عافية، وهنا يكون اللقاء من وراء حجاب، ويتّسم بالتكلّف أكثر مما يتّسم بالصدق، وهو ما ينعكس على استنتاجات وخلاصات محدودة ومنقوصة وباهتة.

أمّا الطبيب، وبحكم مهنته، فهو وحده الذي ينزع البشرُ أمامه جميع أقنعتهم بعدما أعادتهم وطأة المرض إلى فطرتهم الأولى، وجرّدتهم من عنجهيّتهم الفارغة، بل ويخلعون ثيابهم قبالته دون حرج، حتى ليبدو المريض عاريًا ظاهرًا وباطنًا. ولا شكّ أن هذه لحظة استثنائية يظفر فيها الطبيب بما لا يظفر به سواه من أسرار وحكايات وانفعالات، تصبح منجمًا ثرًّا وكنزًا ثمينًا يوظّفه لاحقًا في إبداعاته ويوشّي به كتاباته.

وهنا، أستحضر مقولة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا: “عندما يُبدع الطبيبُ فنًّا، فإنه يكون الأجمل والأصدق والأدقّ، لأنّه لا يَتخيّل المعاناة البشرية، بل يَعيشها ويُعالجها”.

ماذا عن كتابك عن حوارات مع “أطباء- أدباء”؟ وهل يرى النور قريبًا؟

الكتاب يضيف سطرًا إلى الذاكرة التاريخية الطبيّة، ويروم تكريم أعلام تستحق الشكر والتبجيل، ويهدف إلى إعلاء ثقافة الحوار في مجتمعاتنا، وأرجوه طاقة نور لجيل شابّ تتخطّفه شياطين الإنس والجنّ ويتلهّف إلى مَن يأخذ بيده إلى سواء السبيل، كما أشبع به نهمًا خاصًّا لديّ إزاء الكتب الحوارية التي أهيم بها صبابة منذ زمن بعيد. وفيه أتقمّص دور الراوية، وأقف من رفاق المهنة موقف ابن جنّي من المتنبّي؛ فأحاور عبر الأوراق نخبة من الأطباء العرب ذوي الباع والذراع في ميادين أخرى خارج ميدان الطب، منهم المفكّر ومنهم الأديب ومنهم الداعية ومنهم الفنان. والحقّ أنّ الكتاب مازال في مرحلة صباه ولم يوشك على الانتهاء، وربما أُرخي له العنان ليكتمل بدره ويرى النور في غضون العام القادم إن شاء الله.

وما الذي لفتك بشكل خاص في هذه الحوارات؟

لفت نظري وجود تجارب رائعة لدى شخصيات كثر، ولكن الإعلام الرسمي يغضّ الطرف عنها لأسباب غير موضوعية. كما لفت نظري هذا التنوّع الفسيفسائي العجيب في اهتمامات الأطباء، حتى لتكاد تشكّ في المقولة الشائعة: الطبّ لا يعطيك بعضه إلّا إذا أعطيته كلّك.

وهنا، أشير إلى أن كلّ معرفة يضيفها الطبيب إلى رصيده، لا شكّ تعود بالنفع على طبّه؛ من حيث سعة الفهم والإدراك، ومن حيث الممارسة العملية والتعامل المثمر البنّاء مع المرضى وذويهم، لا سيما أن كلّ المهن تقف على حدود جلد الإنسان ولا تتخطاه، بينما الطبيب، والطبيب فقط، هو الذي يحمل رخصة التوغّل داخل هذا الكائن المعجِز المسمّى إنسانًا، وتلك لعمري ميزة كبرى تضع على كاهله مسؤولية أكبر وتتطلّب معرفة أوسع وأعمق.

بمَ تنصح مَن يريد الاشتغال بالأدب من الأطباء؟

إذا اتفقنا على تحرّي غاية نبيلة ورسالة سامية ينتويها الطبيب من وراء اشتغاله بالأدب، ولم نختلف على كون الطبّ أشرف العلوم بعد علوم الشرع؛ فستبقى أمّ النصائح هي عدم تخلّيه عن ممارسة الطبّ بأيّ حال من الأحوال، وإلّا أدركتْه “حرفة الأدب” في عالم عربي لا يؤمّن للأديب عيشًا كريمًا، اللهمّ إلّا إذا وقف على باب سلطان جائر وباع قلمه في سوق نخاسة الكلمة.

بالطبع تختلف القصة في الغرب تمام الاختلاف؛ ولذا نجد الكثير من الأطباء الأدباء هناك يتفرّغون للقلم، بينما لا نكاد نجد ذلك في الشرق إلّا لمامًا، ولذلك حديث ذو شجون، أدناه مقولة الأديب أبو الحسن الباخَرْزي: هذه حِرفة لا تنجو من حُرفة، وصنعة لا تنجو من ضرعة، وبضاعة لا تَسلم من إضاعة، ومتاع ليس لأهله استمتاع!