تمتزج في رمضان تركيا عراقة التقاليد التركمانية، بغزارة الآداب العثمانية، بأصالة تعظيم شعائر الإسلام في أرض الخلافة. يشكل هذا الثلاثي أضلاع بهجة تكتمل مع إنارة المآذن في قريب من أربعين ألف مسجد بتركيا، حسب إحصائيات رسمية العام الماضي.

 “محيا” هي الاسم التركي لإيقاد أضواء المنائر إيذانا بانقضاء يوم صوم، ومع مطاولتها عنان السماء، وعددها الذي يربو على الثلاثة آلاف في مدينة مثل اسطنبول، تكون الأضواء في قممها منارا يربط بين السماء والأرض في ساعة خشوع..

تبدأ استعدادات الأتراك للشهر الكريم مع ابتداء الأشهر الحرم، يصوم الأتراك عدة أيام الشهر الكريم على مدى الأشهر الحرم، وفي النصف الثاني من شعبان تعلن المساجد، والجمعيات والأوقاف حالة النفير استعدادا للشهر الفضيل.. فتحضر وجبات الإفطار للفقراء، وتعد المصاحف للقارئين. ومع إعلان هلال رمضان تنطلق الزغاريد من البيوت العتيقة احتفاء بالقادم الميمون.

يتبع الأتراك نسخة من المذهب الحنفي معدلة جينيا، لتتناسب مع مستوى الفقه المتدني في أوساط طلبة المدارس الحديثة، وهم الغالبية الساحقة من المتعلمين في تركيا، فبعض التصرفات تظهر فيها آثار التعليم، مثل إعلان بداية كل قسم من أذكار الصلاة بصوت مرتفع: يقول المسمع في المسجد: سبحان الله، ثم يكمل الثلاثة والثلاثين تسبيحة سرا، ثم يعلن بداية المقطع الثاني…

المذهب الحنفي يوجب الرواتب، لذلك يخللها الأتراك بين الصلاة وأذكارها، وقبل التراوايح يؤدون الراتبة التي تعرف بـ”سُنَّتْ” ثم يعودون إلى أذكار الصلاة.. ويسلم المقتدي في المذهب الحنفي اقترانا مع الإمام، ويراها النعمان سنة، وهو ما يشكل على محدودي الفقه من المالكية، أمثالي.

الصوم وقت الإفطار

شوارع اسطنبول في رمضان صائمة عند وقت الإفطار، مفطرة وقت الصيام. هذه المعادلة الصعبة، تشاهدها يوميا، ففي أغلب المقاهي تجد مدخنين قلة، وتجد في بعض المطاعم آكلين، يقلون ويكثرون في عين الرائي تناسبا مع شعوره بالشهر الكريم، إلا أنهم موجودون فعلا.. لكن حين يحين وقت الإفطار تمتلئ الساحات حتى تكتظ بمنتظري الأذان.. بعضهم مفطرون وأغلبهم صيام.. لا تستغرب مثلا أن مدخنا ينتظر الإفطار.. حتى بات بعضنا يتندر  بأن الدخان ربما لا يفسد الصوم على المذهب الحنفي.. لكنك ربما ترى آكلا أيضا ينتظره أيضا… ولا يهولنك أن ترى سمت أخواتك مختلا في منتظرات الأذان، فدين الله محفوظ.. حتى ولو تقلصت الملابس…

وقت الإفطار تخلو الشوارع من السيارات، حتى تنكر وجه اسطنبول المصنفة ضمن المدن الصاخبة في العالم

الإفطارات الجماعية

عادت ظاهرة الإفطارات الجماعية التي كانت تقليدا تركيا قديما، مع عُمد حزب الرفاه الإسلامي، ثم تواليه، فقد بدؤوا يوزعون وجبات الإفطار ساخنة على الموظفين الذين يغادرون العمل إلى بيوتهم وقت الأذان، خصوصا في فصل الشتاء (نفطر الآن بعد ثلاث ساعات تقريبا من انتهاء وقت الدوام).

وتحولت الآن إلى مهرجانات ضخمة؛ أول أيام رمضان الحالي نظمت بلدية اسطنبول إفطارا جماعيا لخمسة عشر ألف صائم، أفسد جوه التفجير الذي ضرب المنطقة القريبة… هذه سنة كل البلديات، والمطاعم الكبرى، والجمعيات، والأوقاف، حتى لا تخلو ساحة عامة من متناولي طعام الإفطار في جو يشعر بالعزة..
الأسر والأفراد والأصدقاء كل يتناول طعام إفطاره في الساحة، لدرجة ان البلديات ترخص الجلوس على عشب الحدائق العامة في رمضان.

أضاف الربيع إلى الأتراك سوريين، وليبيين، ويمنيين، ومصريين، تجمعهم الحدائق والساحات والمطاعم يحيون رمضانهم بإفطارات جماعية في كل أحياء الاستانة..

ختمة القرآن

من عادات الأتراك في رمضان توزيع الختمة، وهي طريقة فريدة في ختم القرآن، فتتوزع كل مجموعة من النساء، أو الرجال القرآن؛ كل حسب طاقته، فإذا أكملوا الختمة اجتمعوا في المسجد، ودعوا. لا يختم كل الأئمة القرآن في صلاة التراويح.. وأمثلهم يقرأ في كل ركعة نصف ثمن أو ربعه..أو آيات قليلة… وتشهد التراويح إقبالا كبيرا من الرجال والنساء والأطفال..

الخرقة النبوية

تزدحم المزارات خاصة مع بداية العد  التنازلي للشهر الكريم، خاصة مسجد الخرقة النبوية، فتفد النساء والرجال من كل أرجاء تركيا لزيارة  مكان الخرقة الذي يغلق سائر أيام السنة، والاكتحال برؤية قطعة من عباءته الشريفة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام… ويعود حضور القطعة إلى اسطنبول إلى عام 1516 ميلادية على يد السلطان سليم الأول، وبني جامع للحفاظ عليها سنة 1851. وكذا جامع السلطان أيوب (وهو مسجد به ضريح الصحابي الجليل ابي أيوب الأنصاري رضي الله عنه)، والمسجد الذي يضم ضريح محمد الفاتح..إلخ

احتفالات رمضان

ولليلة السابع والعشرين (ليلة القدر) احتفالات رسمية تقيمها الدولة. يخص الأتراك رمضان بخبزة “البيدا” وهي كلمة تعني الفطيرة بالفارسية، وبــ”شراب رمزان” (فيه نوع ألا بيصام) ومواد أخرى لا ترى في غير الشهر الكريم..كما يعدونه موسما للتزاور. ومن طريف العادات فيه خطاب الولاء الزوجي الذي يؤكد فيه الزوج أمام زوجته الولاء ما بقي من حياته، ويطلب الصفح عن كل السوابق التي مرت في العام الماضي، وتهديه سوارا فضيا تجديدا للعهد وتعبيرا عن المحبة، وهو موسم يتيامن فيه الأتراك بعقد العزم على إكمال الزيجات مع أوائل أيام الفطر، وتستكمل فيه الإجراءات الممهدة لذلك.
وللأتراك وجبة ثالثة بين الفطور والسحور خلافا لمعظم المشارقة لعلها ما بقي عندنا من إرث العثمانيين..