قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة والموازنة بين المصالح والمفاسد تعد أحد مسالك الاجتهاد للوصول إلى مناسبات ومقاصد الأحكام الشرعية، وإدراك درجات المصالح الشرعية لا سيما حين يطرح عليها التعارض أو التدافع أو حتى التداخل بين المصالح والمفاسد، ولا تظهر وجهة الحق من الباطل، فهذه القاعدة تضبط هذا التعارض وتوجه طريق الترجيح بين المصالح والمفاسد.

ومن المعلوم أن المصالح أو المفاسد التي طلب الشارع أن يسترعى، أو أن يستدفع، فإن أغلبها تشتمل على جزء من الأضداد، فلا توجد مصلحة خالصة دون أن يتخللها بعض المفاسد وإن كانت نادرة، كما لا توجد مفسدة خالصة ولا تشتمل على بعض المصالح، وذلك في حكم الغالب، وهذه المصالح أو المفاسد منها ما تكون عاجلة، ومنها ما تكون آجلة.

وهذا ما بينه العز بن عبد السلام في كلامه: ” المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد ويدل عليه قوله – عليه السلام -: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» .

والمكاره مفاسد من جهة كونها مكروهات مؤلمات، والشهوات مصالح من جهة كونها شهوات ملذات مشتهيات، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته، ولذلك شرعت الحدود ووقع التهديد والزجر والوعيد، فإن الإنسان إذا نظر إلى اللذات وإلى ما يترتب عليهما من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة نفر منها بطبعه لرجحان مفاسدها، لكن الأشقياء لا يستحضرون ذكر مفاسدها إذا قصدوها، ولذلك يقدمون عليها، فإن العاقل إذا ذكر ما في قبلة محرمة من التعزير والذم العاجلين والعقاب الآجل، زجره ذلك.” [قواعد الأحكام: 1/14-16].

وأكد القرافي المعنى ذاته في كتابه الفروق، وكذا الشاطبي، لكن لا شك أن الحكم دائما للغالب ولا عبرة للمغلوبة، لأن الشارع بحسب تعبير الشاطبي لا يرعى إلا المصلحة أو المفسدة الغالبة، أما المغلوبة فليس لها اعتبار.

بين المصالح والمفاسد

ولو عدنا قليلا إلى كلام العز بن عبد السلام السابق نجد أنه يثبت ذات الحقيقة، وهي وجود أقسام لكل من المصالح والمفاسد، وذلك فيما يأتي:

النوع الأول – المصلحة المحضة: هي كل شيء يشتمل على خير ونفع وصلاح وإصلاح للناس مطلقا، مثالها: الإيمان والبر والإحسان وما يتبع الضروريات الخمس مثل حفظ العقل والعرض والمال.. ويرى الشاطبي أن هذا النوع من المصالح هي التي اعتبرها الشارع، وهو المصلحة المحضة التي لا يشوبها شيء من المفاسد لا قليلا ولا كثيرا[1].

النوع الثاني -المفسدة المحضة: هي كل أمر يشتمل على شر وضرر وفساد وإفساد بين الناس، وتشير إلى المنهيات الشرعية من الأقوال والأفعال، ويأتي في المرتبة الاولى منها الفساد الديني والعقدي، وإفساد العقل بالإسراف والتبذير والعقل بالسكر وغير ذلك، فهذه المفاسد محضة غير مشوبة بشيء من المصالح. والمطلوب من الخطاب الشرعي المتعلق بالمفاسد الخالصة الامتناع والكف عن الفعل، وهذا ينطبق على أكثر الأمور التي نهى عنها الشريعة الإسلامية، من المنكرات والبدع والأخلاق المذمومة. وهذا ما يعبر عنه بدرء المفسدة أي دفعها.  

النوع الثالث – الموازنة بين المصالح والمفاسد في حال التلازم بين الفعل والترك: قد يفهم من كلام العز أن المصالح الخالصة إذا تعارضت مع المفاسد الخالصة أنه تكون المصلحة مقدمة على المفسدة، ويتضح هذا المعنى أكثر ببعض التفاصيل التي ذكرها في قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، فقد تناول هذا الأمر من خلال تعريفه للحكمة، فقال: ” الحكمة في اللغة المنع .. وفي الشرع عبارة عن ترك المأمورات أو فعل المنهيات، وحاصله المنع من ترك المصالح الخالصة أو الراجحة، والمنع من فعل المفاسد الخالصة أو الراجحة، والوعظ وهو الأمر بجلب المصالح، الخالصة أو الراجحة أو النهي عن ارتكاب المفاسد الخالصة أو الراجحة..”.

ثم نبه إلى فعل المنتكسين الذين آثروا فعل المفاسد الخالصة وترك المصالح الخالصة، وشناعة صنيعهم، وضرب أمثلة على هذا التصرف بتضمين المكوس والخمور، واقتراف الزنا وغير ذلك على ما ينطوي عليها من المفاسد الخالصة العاجلة والآجلة، ثم اعتبر ذلك من الجهل وعدم الحكمة.

ويلوح لنا أن العمل الواحد اجتمع فيه المصلحة المحضة من جانب الوجود، ولازمها انتفاء المفسدة المحضة، وكانت الحكمة تقديم المصلحة الراجحة، وهي ترك المحرمات والمنهيات المذكورة، على المفاسد الراجحة لما يترتب من العقاب الأليم، ففعل المأمور يلزمه ترك المنهي، فمن كف عن هذه المعاصي فقد قام بالمأمور. ومن ترك الزنا مثلا فقد وقع المطلوب بالكف عن المفاسد الخالصة، وهو كذلك قد راعى المصلحة الراجحة وهي حفظ العرض.   

وهذا ما يفيده كلام العلماء بأن المصلحة الشرعية يجب مراعاتها من جانب الوجود والعدم. والعلاقة هنا بين المصالح والمفاسد تلازمية، فأي واحد من الأمرين وقع ارتفع الآخر، أما أن يقعان جميعا على حد سواء، فهذا لا يفيده كلام العز بن عبد السلام السابق، ولهذا لا يمكن حمل هذا القول على التساوي بين المصالح والمفاسد؛ من حيث التحصيل والامتناع، كما لا يمكن أن يقال إن إقامة الصلاة وتركها على مستوى واحد، وإنما أمرنا الله تعالى بإقامة الصلاة للمصلحة الراجحة فيها، ونهى عن تركها للمفسدة الراجحة في الترك.

ولهذا فإن قاعدة جلب المصلحة مقدم على درء المفسدة لا تنطبق على هذا النوع من التعارض بين المأمور والمنهي.

الموازنة بين المصالح والمفاسد حين تتساوى في الدرجة

والنوع الرابع الذي يمكن استخراجه من فحوى كلام العز السابق، إذا تعارض الأمر بين المصلحة والمفسدة وكانتا على منزلة ودرجة واحدة، فهل تقدم المفسدة كما في قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، أم لا ؟

وللوقوف على معنى هذه القاعدة نذكر نموذجين بإيجاز:

 النموذج الأول: جاء في قواعد الأحكام للعز: «وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] . حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما.» «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (1/ 98).

النموذج الثاني: جاء في كتاب” «الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية» (ص265): «فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة، فدفع المفسدة مقدم في الغالب، إلا أن تكون المفسدة مغلوبة؛ وذلك لأن اعتناء الشرع بترك المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات، لما يترتب على المناهي من الضرر المنافي لحكمة الشارع في النهي»”. ومن أمثلة ذلك:

– إذا وجب على امرأة الغسل ولم تجد سترة من الرجال تؤخر الغسل؛ لأن في كشف المرأة على الرجال مفسدة

– منع التجارة في المحرمات من خمر ومخدرات وخنزير، ولو أن فيها أرباحاً ومنافع اقتصادية.

– يمنع مالك الدار من فتح نافذة تطل على مقر نساء جاره، ولو كان فيها منفعة له.

ونلاحظ الاختلاف بين ما جاء في كلام العز بن عبد السلام وما جاء في الوجيز[2]، فإن العز بن عبد السلام رجح المفسدة وقدمها لأنها الغالبة، وليست من جانب كونها مفسدة متعارضة مع المصلحة، وهذا يبين أن القاعدة ليست على إطلاقها، ويدل على هذا المعنى ما جاء في قواعد الأحكام تكميلا لقاعدة التعارض ومعياره، قال: “وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة… وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد”[3].

الظاهر من كلام العز بن عبد السلام أنه يختار في حال استوت المصالح والمفاسد  التخير بينهما أو التوقف، وهذا يبرهن أن ثمة اختلاف بين العلماء قديما في الموافقة على قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

وقد تعرض لهذا الاختلاف الإمام الزركشي تحت مسألة المناسبة هل تنخرم بالمعارضة؟ فقال:

“أن يأتي بمعارض يدل على وجود مفسدة أو فوات مصلحة تساوي المصلحة أو ترجح عليها، كما لو قيل في معارضة كون الوطء إذلالا بأن فيه إمتاعا ومدفعا لضرر الشبق، فهل تبطل المناسبة؟ فيه مذهبان:

أحدهما: نعم، وعزي للأكثرين واختاره ابن الحاجب والصيدلاني، لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن المناسبة أمر عرفي، والمصلحة إذا عارضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة.

والثاني: اختاره الرازي والبيضاوي – أنها لا تبطل، واختاره الشريف في جدله، وربما نقل عن ظاهر كلام الشافعي.

ثم قال: «والواجب هاهنا امتناع العمل به للزوم الترجيح بلا مرجح أو التزام المفسدة الراجحة، فيستوي الفريقان في ترك العمل به، لكن اختلفا في المأخذ،»”[4].

وأما الدكتور أحمد الريسوني في مقاله جلب المصالح ودرء المفاسد.. الأصل والفرع فقد وسع البيان في هذه القاعدة وتعرض لبعض المعاني والأصول التي تستدعي مراجعتها والنظر فيها، ونبه على خطورة الأثر المترتب على إطلاق عنان العمل بها، سواء في مجال العلم أو التربية أو العمل الدعوي  يقول: “القضية الأصلية ذات الأسبقية والأولوية هي بناء المصالح وتكميلها هي تحقيق الأعمال الإيجابية أو الوجودية بتعبير ابن تيمية ، أو هي الحفظ الوجودي بتعبير الشاطبى . فلو أن هذه القضية الفرعية – قضية درء المفاسد ومحاربتها – أخذت ربع عنايتنا وجهودنا وانشغالاتنا ، لكان هذا كثيرا ، ولو أخذت أقل من ذلك لكان أفضل…”

ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة موسعة وبيان الكتب الأصولية المختلفة التي تعرضت للموضوع بالبحث والدراسة، وبيان التطبيقات المعاصرة المتفرعة على هذه القاعدة سواء بين القائلين بها أو المعترضين.  


[1]  الموافقات (2/46).

[2]  الدكتور محمد صدقي، الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية (ص267)، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، 1416 هـ – 1996م

[3]  قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/98).

[4]  البحر المحيط في أصول الفقه (7/ 281).