تحدث القرآن عن إمداد ملائكي للمؤمنين يوم بدر، قال تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] والأقرب من السياق القرآني أن هذا الإمداد قد حصل بالفعل، أي أن  ألفًا من الملائكة نزلوا يوم بدر إلى جوار المسلمين، قال  الطبري عن نزول الملائكة في بدر وأحد : ” في القرآن دلالة على أنهم قد أُمِدُّوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [8: 9] أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل منهم ” .[1]

وإذا كان هذا هو الأقرب فهمًا من آيات القرآن، فإن السنة قد صرَّحت بنزول الملائكة يوم بدر

فعبد الله بن عباس، قال: حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة.[2]

لكن لماذا نزلت الملائكة؟ وماذا فعلت في أرض المعركة؟

هل نزلت الملائكة للقتال؟

أنكر أبو بكر الأصم قتال الملائكة وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط ; فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ وبتقدير حضوره أي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟

وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا.

وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر، ولم يقل أحد بذلك، وأنه خلاف قوله: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] [8: 44].

ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ألبتة. كما كان يلزم جز الرءوس وتمزق البطون وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات، فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف.[3]

بين الرازي والسبكي

ولا غرابة في أن يعترض الرازي وغيره على تساؤلات الأصم، لكن الغريب أن يذكر الرازي أن المفسرين اتفقوا على أن الملائكة نزلت في بدر وقاتلت، وها هو الطبري يذكر الخلاف في المسألة، والأغرب أن يكتفي الرازي باعتراضه على تساؤلات (الأصم) دون أن يفندها أو يرد عليها، مكتفيا بأن هذه الشبهات لا ينبغي أن تصدر ممن يؤمن بالله!

لكن الشيخ تقي الدين السبكي، كان أرحب صدرًا بسماع هذه الشبهات التي رأى الرازي أنها لا تصدر من مؤمن، فقد قال : سُئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟

فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مدد الجيوش؛ رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع.

فقد أقرَّ السبكي بالحاجة إلى السؤال عن الحكمة من نزول الملائكة، وذكر ما فتح الله عليه من الجواب فيها، ونقل ابن حجر الشبهة والجواب عن السبكي نقل المستحسن، لا نقل المنكر.[4]

رشيد رضا ينكر قتال الملائكة

كما أن الشيخ رشيد رضا، اختار أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر، وشنَّع على من رأى غير ذلك فقال : “وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وبعض الروايات الغريبة التي يردها العقل، ولا يثبتها ما له قيمة من النقل. فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر، وما كان له من الفوائد لم يكن كافيا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين حتى كان ألف – وقيل آلاف – من الملائكة يقاتلونهم معهم فيفلقون منهم الهام، ويقطعون من أيديهم كل بنان، فأي مزية لأهل بدر فضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم، وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف؟ ! وبماذا استحقوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ” وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ “[5]

هل توجد روايات صحيحة ؟

من المعروف لغة أن ثمة فرقا بين القتال والقتل، وأنه ليس بالضرورة أن يسفر القتال عن القتل، فجيش المعركة عموما يحضر أرض القتال، ويقاتل بالفعل، لكن ربما لا يُسفر قتاله عن عملية قتل واحدة، وتنتهي نتيجة القتال عند الضرب والجرح والإصابة والأسر ونحو ذلك. أما القتل فهو إزهاق الروح بالفعل.

ولا يعنينا ما يورده أهل السير والحديث من روايات ضعيفة تبين قتال الملائكة، ولكن يعنينا، ما صح منها، وهاهي الأحاديث التي صحت على سبيل الحصر مما له علاقة بعملية القتل والقتال:

1- عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه، كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة»[6]

فهذا الحديث يثبت قتال الملائكة الذي لم يؤدِّ إلى موت الرجل، فالكلام عن خطم الأنف، وهو إحداث أثر مثل الكي بالأنف فقط.[7]

2- في مسند أحمد : “جاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح، من أحسن الناس وجها، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: ” اسكت، فقد أيدك الله تعالى بملك كريم”[8]

وهذا الحديث يثبت مساعدة الملائكة في عملية أسر أحد المشركين لا قتله.

3-روى الأموي بسنده إلى ثعلبة بن صعير قال: خفق النبي – صلى الله عليه وسلم – خفقة في العريش، ثم انتبه فقال: “أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل معتجر بعمامته، آخذ بعنان فرسه، يقوده على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وعدته”.[9]

وهذا الحديث يثبت نزول الملائكة في أرض المعركة،  لا أكثر. وفي حضور الملائكة أرض المعركة، وهم على هيئة القتال عدد من الأحاديث الصحيحة، لكنها لم تزد على هذا القدر؛ ولذلك فنحن نعتقد ونؤمن أن الملائكة نزلت يووم بدر إلى جوار المسلمين، وأنها ربما مارست القتال أحيانا.

لكن هل أدى هذا القتال إلى قتل أحد من المشركين؟

الحديث الوحيد  الذي عثرت عليه بعد تفتيش – سنوات طوالًا- يتحدث عن عملية قتل واحدة تمت على يد الملائكة، هو ما جاء عن أبي داود المازني: (إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري) والحديث ضعفه الأرناؤوط في تعليقه على المسند، وقال : ” إسناده ضعيف لإبهام الواسطة بين إسحاق بن يسار والد محمد وبين أبي داود المازني. يزيد: هو ابن هارون.وأخرجه الدولابي في “الكنى” 1/69 عن أبي بكر مصعب بن عبد الله، عن يزيد بن هارون، بالإسناد الثاني.وأخرجه كذلك الطبري في “تفسيره” 4/77 من طريق سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، به.وهو في “سيرة ابن هشام” 2/286 عن ابن إسحاق بالإسناد الثاني.[10] وقال إبراهيم العلي في كتابه ( صحيح السيرة النبوية) [11] عن رواية أحمد هذه : ” وسنده حسن” ولكن أنى له الحسن وفيه هذا الانقطاع!!

قتل لم يُنقل؟

وربما يقول قائل : وما الذي يمنع أن تكون الملائكة قتلت من المشركين من قتلت، دون أن يُنقل إلينا شيء منها؟

والجواب من ناحيتين

الأولى : ما قاله الأصم، أن هذا لو نُقل لتوافرت الهمم على نقله لغرابته.

الثانية: أن ابن هشام ذكر في سيرته أسماء القتلى السبعين من المشركين، وذكر اسم قاتليهم من الصحابة، إلا بضعة رجال لم يُسَمِّ قاتليهم، فأين إذن قتلى الملائكة؟

ويبقى السؤال : فلماذا نزلت الملائكة إذن؟

والجواب  أن ظاهر القرآن قد نص على أن إنزال الملائكة، وإمداد المسلمين بهم فائدته معنوية، فقد  بين تعالى أن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب فيزيد في قوتها المعنوية فقال: وما جعله الله إلا بشرى أي: وما جعل عز شأنه هذا الإمداد إلا بشرى لكم بأنه ينصركم كما وعدكم ولتطمئن به قلوبكم أي: تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم في جملتكم من مجادلتكم للرسول في أمر القتال ما كان. فتلقون أعداءكم ثابتين موقنين بالنصر.

ولماذا لم تقتل الملائكة أحًدا ؟

لأن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد عادية المعتدين والأخذ على يد المفسدين ليس من مهمة الملائكة خاصة  بعد إرسال النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، بل هذه مهمة البشر من المؤمنين ، الذين يريدون ما عند الله من جنان، فلئن قال عبد المطلب يوم جاءه أبرهة بجيشه لهدم الكعبة : ” للبيت رب يحميه” فإن رب البيت وزع ما شاء من المهام على من شاء من عباده ، فوقعت مهمة الذود عن حياض الدين ، والدفاع عن  المظلومين والمضظهدين، واسترجاع الحقوق من الفراعين، ودحر الطغاة من المشركين والملحدين والمستبدين..وقعت هذه المهمة من نصيب البشر أتباع هذه الرسالة الخاتمة ، وفي طليعتهم هذه الفئة المؤمنة مع النبي صلى الله عليه وسلم بقيادته، وكان للملائكة مهام أخرى.[12]

 


[1] – تفسير الطبري، ط هجر (6/ 28)

[2] – صحيح مسلم (3/ 1383)

[3] –  انظر :تفسير الرازي (8/ 351)، و تفسير النيسابوري (2/ 251)

[4] – فتح الباري لابن حجر (7/ 313)

[5] – تفسير المنار (9/ 510)

[6] – صحيح مسلم (3/ 1384)

[7] – جامع الأصول (8/ 186)

[8] – مسند أحمد ط الرسالة (2/ 261) وقال عنه محققو المسند : صحيح.

[9] – البداية والنهاية 5/ 126، وقال الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص243: وهذا سند حسن، وسكت عليه ابن كثير.

[10] –  مسند أحمد ، طبعة الرسالة (39/195)

[11] – صحيح السيرة النبوية (181)

[12] – راجع مهام الملائكة ووظائفهم في كتب العقيدة.