من بين الميزات الكثيرة التي يتميز بها الإسلام، ويكون من خلالها ذا فاعلية ممتدة في الحياة بامتداد الزمان والمكان والحال؛ أنه “دين ديناميكي”([1])؛ وليس دينًا سكونيًّا “استاتيكيًّا” انعزاليًّا.

 

ونريد بـ”ديناميكية الإسلام” أنه دين يحض على الحركة ويرفض السكون، يدعو للتجديد ويأبى التقليد، يشجع على الاشتباك مع الحياة لا الرهبنة والانعزال عنها.. ذلك أنه جاء منهجًا للحياة، معالِجًا كلّ شئونها وليس ثغرة بعينها، عابرًا للزمان والمكان وليس محصورًا في فترة أو بقعة، مخاطبًا الإنسان كلَّ الإنسان.. وهذه العوامل وغيرها تجعل من الإسلام بالضرورة والاتساق دينًا ديناميكيًّا يستطيع أن يستوعب كل هذه الشئون، ويساير كل هذه التغيرات زمانًا ومكانًا وحالاً، ويلبي حاجات الإنسان أيّ إنسان.

والإسلام ديني حركي/ ديناميكي سواء فيما يتصل بالمعنى: من حيث قابليته للتعقُّل، وحضُّه على الاجتهاد.. أو فيما يتصل بالمادة: من حيث طلبه عمارة الأرض، وبذل الخير، وحثه على الاستغناء عن الخلق.

الإسلام والتعقل

ففي قابلية الإسلام للتعَقُّل: يتضح لنا جليًّا من خلال تأمُّل عقائده وتشريعاته ومبادئه العامة أنه لا يصادم العقل، ولا يضع العراقيل أمامه؛ بل يفتح له نوافذ من الفهم والتدبر، ويحثه على الفعل والفاعلية، ويجعل من تفكيره فريضة من الفرائض كما قال الأستاذ العقاد.

وآيات القرآن الكريم في هذا المقام كثيرة وعميقة الدلالات؛ مثل قوله تعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 20) {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل: 12).

كما أننا لن نجد عقيدة من عقائد الإسلام تصادم العقل الصحيح ولا الفطرة السليمة.. مع ضرورة الانتباه إلى الفرق بين ما يحكم العقل باستحالته، وما لا يستطيع العقل إدراك كنهه وحقيقته؛ فوجود الإله الواحد الأحد أمر يقبله العقل ويستسيغه، لكن حقيقة الوجود الإلهي فوق طاقة العقل وخارج إدراكه؛ بينما تعدد الآلهة، أو ما يقال عن تداخل الطبيعتين البشرية والإلهية كما في المسيحية، أمر يرفضه العقل ويأباه النظر الصحيح.

يضاف لذلك- ضمن القابلية للتعقُّل- أن الإسلام قد قرَّر أن لتشريعاته حِكَمًا ومقاصدَ؛ وأن هذه الحكم والمقاصد تمثِّل موازينَ وضوابطَ في الفهم وفي تنزيل الأحكام وفي تكييف النوازل. وفي هذا الباب، وبسببه، تعدَّدت آراء العلماء، واختلفت اجتهاداتهم، وتشعَّبت المدارس الفقهية.. وكلُّهم من بحر الشريعة مُلتَمِسٌ.

الإسلام والاجتهاد

وأما حضُّ الإسلام على الاجتهاد: فأمر مقرَّر ثابت؛ تقتضيه طبيعة الإسلام ذاته من أمرين؛ أولهما أنه في كثير من المسائل اكتفى ببيان القواعد العامة الكلية، والمبادئ الثابتة غير المتغيرة، مفسحًا المجال لتعدد الآراء واختلاف الاجتهادات أمام الوقائع المتجددة التي يصعب أن تستوعبها النصوص مهما تعرَّضت للتفاصيل؛ فالنصوص متناهية والوقائع غير متناهية.

يقول الشهرستاتي: “وبالجملة نعلم قطعًا ويقينًا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعًا أيضًا أنه لم يَرِد في كل حادثة نص، ولا يُتصور ذلك أيضًا. والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى؛ عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد. ثم لا يجوز أن يكون الاجتهاد مرسَلاً خارجًا عن ضبط الشرع؛ فإن القياس المرسَل شرع آخر، وإثبات حُكم من غير مستندٍ وَضْع آخر. والشارع هو الواضع للأحكام؛ فيجب على المجتهد أن لا يَعدِل في اجتهاده عن هذه الأركان”([2]).

والأمر الثاني: أن الإسلام خطابٌ سارٍ إلى قيام الساعة، غير محدود بزمن؛ وكان من غير المتصوَّر أن يأتي الإسلام بأحكام لمسائل لَمَّا توجد في واقع الناس؛ بل سيعرفونها لاحقًا وفي أزمان متعاقبة.. فمسائل مثل الاستنساخ أو البنوك الاقتصادية أو بنوك الدم أو بنوك الحيوانات المنوية والبويضات، كيف كانت الشريعة تنص على أحكام لها، بينما هي لم توجد في دنيا الناس، ولم يكن العقل ليستوعبها لو حُدِّث عنها حينما كان الوحي يَتنزَّل؟!

فلأن الإسلام قائم حتى آخر الزمان، كان لا بد أن يتحلَّى بالمرونة التي تسمح له أن يستوعب هذه التطورات، وأن يكتفي ببيان القواعد العامة والأصول الثابتة خاصة فيما يتصل بأحكام المعاملات لا العبادات.. وهذا كله دليل مؤكد على ديناميكية الإسلام، وأن الجمود أبعد ما يكون عن تشريعاته وتوجيهاته.

وقد أصاب شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال حين لاحظ في كتابه القيم (تجديد الفكر الديني) أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام.

الإسلام والاشتباك مع الحياة

وأما ديناميكية الإسلام فيما يتصل بالمادة: أي من حيث طلبه عمارة الأرض، وبذل الخير، وحثه على الاستغناء عن الخلق؛ فالإسلام قد جاء ليشتبك مع الحياة لا لينعزل عنها، اشتباكَ إصلاحٍ وتعميرٍ وتحضير: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61)، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56).

ويكفينا في هذا المعنى أن الإسلام جعل من العرب- وهم أهل بداوة وبساطة- أهلَ حضارة وعمران، حتى تركوا آثارهم في شرق العالم وغربه إبداعًا وتمدُّنًا؛ وما زالت هذه الآثار كما في مسجد قرطبة بالأندلس شاهدَ صدقٍ على عظمة تلك العقول والسواعد التي اتخذَّت لها من القرآن الكريم منطلقًا ومنهجًا، بعد أن كانت لا تعرف من الدنيا إلا خيمة تستظلّ بها..!

ولعل من الطريف هنا أن نختم بالإشارة إلى أن العبادات الإسلامية جاءت تعبيرًا عن هذه الديناميكية حتى في أسماء أركانها؛ ففي الحج مثلاً نجد مفردات: الطواف، السعي.. بل حتى “الوقوف” بعرفة، هو فعل حركي!

وإذا كان الإسلام على هذا المستوى من الديناميكية والحيوية، فإن للمراقب أن يتساءل: كيف وقع المسلمون في هذه الحفرة من السلبية والجمود والسكونية؛ حتى رضوا من القافلة بالمؤخرة، ومن المشهد العالمي بالتفرج والاستهلاك، لا المشاركة والإنتاج والإبداع..!!


([1]) الديناميكا فرع من الميكانيكا يدرس الحركة في صلتها بالقوى المحركة. و”الديناميكا الاجتماعية”: دراسة الظواهر الاجتماعية فى صلتها بالتطور والتقدم. وقد أطلق أوجيست كونت وهربرت سبنسر “الديناميكا الاجتماعية” على تطور المجتمعات؛ ويقابل “الاستاتيكا الاجتماعية”. “المعجم الفلسفي”، مجمع اللغة العربية، ص: 86، ط 1983م.

([2]) “الملل والنحل”، الشهرستاني، ص: 452- 454، تحقيق د. محمد فتح الله بدران، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2014م.