يحكى أن أعمى أتيح له مرة أن يبصر الكون مقدار لحظة خاطفة، وكان من القدر أن عينه وقعت على رأس ديك، فأصبح ذلك الرأس معياره الوحيد لقياس الأشياء، وكان كلما حدثه الناس عن شيء ما في هذا الكون الفسيح (إنسان، كوكب، دابة إلخ) يسألهم، هل ذلك الشيء أكبر  أم رأس الديك؟

تعبر هذه الحكاية الميثولوجية عن قضية فلسفية مهمة، هي أن معيار نظرتنا للأشياء -في كثير من مكوناته- هو انعكاس لمقدار المعرفة والوعي الذي نختزنه في ذواكرنا، أي نتاج تربيتنا وثقافتنا التي شكلت أذهاننا، فنحن نقيس على ما شاهدناه، لأن شاهد البصر هو أقوى شهود المعرفة، فـ”ليس الخبر كالعيان”.

كل ما نسمع عنه نشكل عنه صورة مقاربة أو مطابقة استخرجناها من مشاهداتنا أو معايشاتنا، وقمنا بعملية ذهنية تحولها من صورة سمعية إلى صورة بصرية مجسدة، يحدث هذا حتى في اللغة، فكل لفظ  يمنحه الذهن صورة حسية (رقة، قسوة، خشونة، نعومة إلخ).

ذاتية المعيار هذه التي عبرت عنها قصة (الأعمى ورأس الديك) تفسر كثيرا من التصورات التي ينطلق منها الناس نخبة وقاعدة، فالملك الذي نشأ في بيت أبيه الذي ورث منه الملك لا يعرف شيئا عن المبالغ الزهيدة التي يفرح بها الفقراء حينما يتابعون نشرة أخبار تبشرهم بزياد الرواتب، فيعتبرهم بناء على ذلك ساذجين، ولا يستحقون الحرية ولا العدل، لأن رأس الديك الذي تعود على رؤيته كان أكبر من رؤوس العصافير الصغيرة التي شكلت تصورهم عن الأشياء.

عرض المثقف وعالم الاجتماع الإيراني إحسان نراعي قصة تعبر عن هذا الأمر بدقة، في كتابه (من بلاط الشاه إلى سجون الثورة)، قال إنه في أحد حواراته مع الشاه بهلوي أسابيع قليلة قبل الإطاحة به، كان يحدثه عن التفاوت الكبير بين طبقات المجتمع الإيراني، وكدليل على ذلك قدم له بطاقة راتب سائق، بدا الشاه ـ وهو يقلبها ـ مستغربا، لأنه لم ير بطاقة راتب في حياته، ولم يكن يعرف ما يعنيه المبلغ الزهيد المكتوب فيها 1500 تومان.

لنأخذ مثلا مفهوم الحرية، فرغم أن الحرية هي أغلى قيمة طمح لها الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، ورغم أنه لم يوجد مجتمع على هذه الأرض أهمل الاهتمام بها، رغم كل ذلك، ما تزال هذه القيمة العليا تتأثر بطبيعة التشكل الذهني لكل مجتمع وتتحدد من خلاله دلالتها، فهي في المجتمعات الغربية المفككة تعني ما يسمى بـ(الفردانية) أي النزعة التي تنظر للإنسان بصفته فردا لا سلطان عليه، سواء كان ذلك السلطان روحيا (الدين) أو سلوكيا (المجتمع).

أما في المجتمعات العربية والإفريقية التي ما تزال تشكل كيانا مترابطا فإنها تدل على معان متعددة، فهي في سياق التدين تعني التحرر من الالتزام بالتعاليم الدينية، وفي سياق المجتمع تعني الخروج على قيمه وأعرافه التقليدية، وفي سياق السياسة تعني ما يسمى في القانون بالحريات العامة.

لكن هناك ملاحظة أخرى تتعلق بسقف الحرية بالنسبة لكل إنسان، فإن هذا السقف يرجع معياره إلى الأسرة التي تربى في أحضانها الفرد والبيئة التي نشأ فيها والمجتمع الذي أخذ منه أفكاره وقيمه، فبينما تدعو المنظمات النسوية الإسلامية مثلا لتحقيق حرية المرأة من خلال الفصل بين التقاليد الاجتماعية والأحكام الشرعية، لأنها ترى أن تطبيق نظرة الإسلام الصحيح للمرأة كاف لمنحها المكانة الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تستحق، تدعو المنظمات النسوية ذات الخلفية اللليبرالية إلى المساواة مع الرجل متجاوزة منظور الإسلام للمسألة، وهو منظور يبني علاقة المرأة بالرجل على أساس التكامل المؤسس على الاختلاف في التكوين والأهلية والدور (لا يعني الاختلاف تراتبية إقصائية ودونية وإنما يعني التنوع الإيجابي الخصيب).

وخلافا للاثنين تذهب تلك المنظمات في الغرب إلى أبعد؛ فتدعو إلى محو الفوارق بين الجنسين، بمعنى إنهاء عصر الزوجية التي يقوم عليها الكون، وتأسيس عصر الإنسان الذي لا يميز بين ذكره وأنثاه، ورغم أن هذه دعوة منافية لفطرة الكون (ومن كل شيء خلقنا زوجين) (وما خلق الذكر والأنثى)، إلا أن المشرع الغربي والمخيال الاجتماعي الغربي يتفهم مثل هذه الدعوات ويؤطرها في سياق (الحرية).

في إطار تضييق دائرة ذاتية المعيار هذه توصل العقل البشري إلى وضع مصفوفات وجداول قياس تمكن من تهذيب هذا الجنوح الذاتي في المعايير، وكلما نجحت أمة في تكثيف وتبسيط ( في آن واحد) تلك المعايير وبسطها لتعيد رسم خارطة الأذهان والتصورات، كلما كانت أقرب إلى التفاهم والدقة والجكم الصحيح على الأشياء.

لا يعني هذا أنه ليس للأشياء حقيقة ذاتية، ولكنه يعني أننا نعيد تشكيل الحقائق الذاتية للأشياء بناء على قياساتنا الذهنية الخاصة، وبذلك يتحول كل شيء في الكون إلى أشكال مختلفة باختلاف أعدادنا، إننا إذن نعيد تشكيل الكون من حولنا وفق نظرية (الأعمى وراس الديك)، وهو ما يطرح أسئلة عديدة حول مصداقية ما نعبر عنه من مواقف وما نطلقه من أحكام، كما يطرح تحديا جوهريا للعقل والواقع في نفس الوقت، فهل نحن نسبح في بحر من الأوهام تخدعنا فيه اللغة والفكر معا؟