آخر غزوات الرسول التي انتصر فيها المسلمون بلا قتال.. يصادف اليوم من التقويم الهجري ذكرى معركة تبوك التي غيرت موازين القوى في المنطقة ومهدت لدخول المسلمين الشام.

وقعت غزوة تبوك في العام التاسع للهجرة، وهي أخر غزوة خرج بها رسول الله ، ووقعت في العام التالي لغزوة مؤتة، وكانت هذه الغزوة من أشد الغزوات على نفوس الصحابة الكرام، إذا وقعت في حر شديد، مما تسبب بعطش كادوا أن يموتوا منه، ومع ذلك ضرب الصحابة الكرام أروع أمثلة التضحية ..

تاريخ غزوة تبوك وأسماؤها

خرج رسول الله لغزوة تبوك في رجب من العام التَّاسع الهجريِّ، بعد العودة من حصار الطَّائف بنحو ستَّة أشهرٍ. واشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، نسبة إلى مكانٍ، هو عين تبوك؛ الَّتي انتهى إليها الجيش الإسلاميُّ. وعرفت كذلك باسم غزوة ” العسرة ” وسمِّيت بهذا الاسم لشدَّة ما لاقى المسلمون فيها من الضَّنْكِ، فقد كان الجوُّ شديدَ الحرارة، والمسافة بعيدةً، والسَّفر شاقّاً لقلَّة المؤونة وقلَّة الدَّوابِّ الَّتي تحمل المجاهدين إلى أرض المعركة، وقلَّة الماء في هذا السَّفر الطَّويل، والحرِّ الشَّديد، وكذلك قلَّة المال الذي يُجَهَّز به الجيش، وينفق عليه. (الصِّراع مع الصَّليبييِّن ، لأبي فارس ، ص 83)

أسباب غزوة تبوك

ذكر المؤرِّخون أسباب هذه الغزوة، فقالوا: وصلت الأنباء للنَّبيِّ من الأنباط الَّذين يأتون بالزَّيت مِنَ الشَّام إلى المدينة: أنَّ الروم جمعت جموعاً، وأجلبت معهم لخمُ، وجُذَامُ، وغيرُهم من متنصِّرة العرب، وجاءت في مقدِّمتهم إلى البلقاء، فأراد النَّبي أن يغزوهم قبل أن يغزوه. (الطَّبقات الكبرى، لابن سعدٍ، 2/165).

الإنفاق في غزوة تبوك

حثَّ رسول الله الصَّحابة على الإنفاق في هذه الغزوة؛ لبعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كلٌّ حسب مقدرته، وكان عثمان رضي الله عنه صاحب القِدْح المعلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة، فهذا عبد الرَّحمن بن حُباب يحدِّثنا عن نفقة عثمان، حيث قال: شهدت النَّبيَّ وهو يحثُّ على جيش العُسْرَة، فقام عثمان بن عفَّان، فقال: يا رسول الله! عليَّ مئة بعيرٍ بأحلاسها، وأقتابها في سبيل الله، ثمَّ حضَّ على الجيش، فقام عثمان بن عفَّان، فقال: يا رسول الله! عليَّ مئتا بعيرٍ بأحلاسها، وأقتابها في سبيل الله، ثمَّ حضَّ على الجيش، فقام عثمان بن عفَّان، فقال: يا رسول الله! عليَّ ثلاثمئة بعيرٍ بأحلاسها، وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر، وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذه! ما على عثمان ما عمل بعد هذه». [أحمد (4/75)، والترمذي (3700)]. وأمَّا عمر؛ فقد تصدَّق بنصف ماله. وروي: أنَّ عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنفق ألفي درهم، وهي نصف أمواله لتجهيز جيش العُسْرَة. (السِّيرة النَّبويَّة في ضوء المصادر الأصليَّة ، ص 616)

وكانت لبعض الصَّحابة نفقاتٌ عظيمةٌ، كالعبَّاس بن عبد المطَّلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمَّد بن مَسْلَمة، وعاصم بن عديٍّ رضي الله عنهم. (مغازي الواقدي، 3/391)

إعلان النَّفير

أُعلِن النَّفير العام للخروج لغزوة تبوك؛ حتَّى بلغ عدد من خرج مع النَّبيِّ صللى الله عليه وسلم إلى تبوك ثلاثين ألفاً، وقد عاتب القرآن الكريم الَّذين تباطؤوا بقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخرةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وقد طالبهم القرآن الكريم بأن ينفروا شباناً، وشيوخاً، وأغنياء، وفقراء، بقوله تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [التوبة: 41].

لقد استطاع رسول الله أن يحشد ثلاثين ألف مقاتلٍمن المهاجرين، والأنصار، وأهل مكَّة، والقبائل العربيَّة الأخرى، ولقد أعلن رسول الله – على غير عادته في غزواته – هدفه، ووجهتَه في القتال؛ إذ أعلن صراحةً: أنَّه يريد قتال بني الأصفر (الرُّوم)، علماً بأنَّ هديه في معظم غزواته أن يورِّي فيها، ولا يصرِّح بهدفِه، ووجهتِه، وقصدِه حفاظاً على سرية الحركة، ومباغتة العدوّ. (الرَّسول القائد، ص 398)

وقد استدلَّ بعض العلماء بهذا الفعل على جواز التَّصريح لجهة الغزو إذا لم تقتضِ المصلحة ستره، وقد صرَّح في هذه الغزوة – على غير العادة – بالجهة التي يريد غزوها، وجلَّى هذا الأمر للمسلمين، لأسبابٍ منها:

1 – بُعْد المسافـة، فقد كان رسول الله يدرك أنَّ السير إلى بـلاد الرُّوم يُعدُّ أمراً صعباً؛ لأنَّ التَّحرُّك سيتمُّ في منطقةٍ صحراويَّةٍ ممتَّدة، قليلة الماء، والنَّبات، ولابدَّ حينئذٍ من إكمال المؤونة، ووسائل النَّقل للمجاهدين قبل بدء الحركة حتَّى لا يؤدِّي نقص هذه الأمور إلى الإخفاق في تحقيق الهدف المنشود.

2 – كثرة عدد الرُّوم، بالإضافة إلى أنَّ مواجهتهم تتطلَّب إعداداً خاصّاً، فهم عدوٌّ يختلف في طبيعته عن الأعداء الَّذين واجههم النَّبيُّ مِنْ قبلُ، فأسلحتهم كثيرةٌ، ودرايتهم بالحرب كبيرةٌ، وقدرتهُم القتاليَّة فائقةٌ.

3 – شدَّة الزَّمان، وذلك لكي يقفَ كلُّ امرئ على ظروفه، ويُعِدَّ النَّفقة اللازمة له في هذا السَّفر الطَّويل لمن يعول وراءه. (البداية والنِّهاية، 5/4).

4 – أنَّه لم يعد مجالٌ للكتمان في هذا الوقت؛ حيث لم يبقَ في جزيرة العرب قوَّةٌ معاديةٌ لها خطرها، تستدعي هذا الحشد الضَّخم، سوى الرُّومان، ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك، ودومة الجندل والعقبة. (غزوة تبوك ، لمحمد أحمد باشميل ص 57)

لقد شرع رسول الله لنا الأخذ بمبدأ المرونة عند رسم الخطط الحربيَّة، ومراعاة المصلحة العامَّة في حالتي الكتمان، والتصريح، ويعرف ذلك من مقتضيات الأحوال.

ولـمَّا علم المسلمون بجهة الغزوة؛ سارعوا إلى الخروج إليها، وحثَّ الرسول على النَّفقة قائلاً: «من جهَّز جيش العسرة فله الجنَّة». [البخاري تعليقاً (7/65)، والدارقطني (4401)، والبيهقي في الكبرى (6/167)].

واستخلف رسولُ الله على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري، وخلَّف عليَّ بن أبي طالبٍ على أهله، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً، وتخفُّفاً منه، فأخذ عليٌّ رضي الله عنه سلاحه، ثمَّ خرج حتَّى أتى رسول الله وهو نازلٌ بالجُرْفِ، فقال: يا نبي الله! زعم المنافقون: أنَّك إنَّما خلَّفتني؛ لأنَّك استثقلتني، وتخفَّفت منِّي، فقال: «كذبوا، ولكنِّي خلَّفتك لِمَا تركتُ ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي، وأهلك، أفلا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبيَّ بعدي» [البخاري (3706)، ومسلم (2404/31 – 32)]. فرجع عليٌّ إلى المدينة. (زاد المعاد 3/530).

وكان استخلاف عليٍّ رضي الله عنه في أهله باعتبار قرابته، ومصاهرته، فكان استخلافه في أمرٍ خاصٍّ، وهو القيام بشأن أهله، وكان استخلاف محمَّد بن مسلمة الأنصاريِّ في الغزوة نفسها استخلافاً عامّاً، فتعلَّق بعض الناس بأن استخلاف عليٍّ يشير إلى خلافته من بعده، ولا صحَّة لهذا القول؛ لأنَّ خلافته كانت في أهله خاصَّةً. (صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، ص 466)

وعندما تجمَّع المسلمون عند ثِنيَّة الوداع بقيادة رسول الله ، اختار الأمراء، والقادة، وعقد الألوية، والرَّايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، ورايته العظمى إلى الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه، ودفع راية الأوس إلى أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، وأمر كلَّ بطنٍ من الأنصار أن يتَّخذ لواءً، واستعمل رسول الله على حراسة تبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عَبَّادَ بن بِشْرٍ، فكان رضي الله عنه يطوف في أصحابه على العسكر، وكان دليلَ رسول الله في هذه الغزوة علقمةُ بن الفَغْوَاء الخزاعيُّ، فقد كان من أصحاب الخبرة، والكفاءة في معرفة طريق تبوك. (سبل الهدى والرَّشاد 5/652)

وقد انفرد الواقديُّ بالمعلومات عن طريق الجيش، وتوزيع الرَّايات، وهو متروكٌ، ولكنَّـه غزير المعلومات في السِّيرة، وأخـذ مثل هذه المعلومات منـه لا يضرُّ. (السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، 2/532).

ويلاحظ الباحث التَّطوُّر السَّريع لعدد المقاتلين بشكلٍ عامٍّ، ولسلاح الفرسان بشكل خاصٍّ.

إنَّ الَّذي يدرس تاريخَ الدَّعوة الإسلاميَّة ، ونشوءَ الدَّولة الإسلاميَّة ومؤسَّساتها العامَّة – وفي مقدَّمة هذه المؤسسات الجيشُ الإسلاميُّ القوَّة الضَّاربة للدَّولة – يلاحظ أنَّ هناك تطوُّراً سريعاً جدّاً في مجال القوَّة العسكريَّة؛ إذ بلغ عدد المقاتلين في غزوة بدرٍ الكبرى ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتلاً، وفي غزوة أحد بلغ سبعمئة مقاتل، تقريباً، وفي غزوة الأحزاب ثلاثة الاف مقاتلٍ، وفي غزوة فتح مكة عشرة الافٍ، وفي غزوة حنين بلغ العدد اثني عشر ألف مقاتلٍ، وأخيراً بلغ عدد المقاتلين في تبوك ثلاثين ألف مقاتلٍ أو يزيد.

وإنَّ الدَّارس يلاحظ هذا التطوُّر السَّريع اللاَّفت للنَّظر في مجال سلاح الفرسان، ففي غزوة بدرٍ كان عدد الفرسان فارسين – في بعض الرِّوايات – وفي غزوة أحدٍ لم يتجاوز عدد الفرسان ما كان في بدرٍ، ويقفز العدد بعد ستِّ سنوات فقط إلى عشرة الاف فارس، وهذا يعود إلى انتشار الإسلام في الجزيرة العربيَّة وبخاصَّةٍ في البادية؛ ذلك لأن أهلها يهتمُّون باقتناء الخيول، وتربيتها أكثر من أبناء المدن.


المراجع:

– فتح الباري، ابن حجر العسقلاني.

– السِّيرة النَّبويَّة في ضوء المصادر الأصليَّة، مهدي رزق الله أحمد.

– الصِّراع مع الصَّليبيِّين ، محمد عبد القادر أبو فارس.

– الرَّسول القائد، محمد شيت خطّاب.

– البداية والنِّهاية، ابن كثير الدمشقي.

– زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية.

– صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة ، محمد فوزي فيض الله.

– السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي.