عن عمر ناهز 86 عاما، وبعد صراع مع المرض، توفّي المفكر الأكاديمي والمؤرخ والناقد التونسي هشام جعيط، أمس الثلاثاء، الفاتح من يونيو 2021. ويعد جعيّط أحد أبرز المفكرين المجددين في قضايا الفكر العربي والإسلامي. ومن أبرز المفكرين المهتمين بالتاريخ الإسلامي، وهو حائز على شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون بباريس.

المعروف عن هشام جعيّط أنه تعمّق في ما اعتبره “أزمة الفكر والثقافة العربية والإسلامية”، ويظهر هذا المنحى في عدد من مؤلفاته على غرار “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي” و”أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة”.

ويعد جعيط أحد أبرز المفكرين المجددين في قضايا الفكر العربي والإسلامي، وقد عرف بكتاباته الداعية إلى التحديث والتنوير وهو من دعاة الاعتدال والوسطية، وله إصدارات تحظى بإقبال واسع من قبل المثقفين والقراء.

ويوصف جعيّط  بأنه المفكر الذي كان وما يزال وفيا لشخصيته لا تابعا لغيره، والمؤرخ الذي تعامل مع الوثيقة دون الرضوخ لعصا السلطة، بالرغم من كونه ابن عائلة من المثقفين والقضاة وكبار المسؤولين من الطبقة البرجوازية الكبيرة في تونس العاصمة، فهو حفيد الوزير الأكبر يوسف جعيط، وابن أخي العالم والشيخ محمد عبدالعزيز جعيط.

من هو المفكر التونسي هشام جعيط؟

ولد هشام جعيّط في تونس العاصمة سنة 1935 لعائلة من المثقفين والقضاة ورجال العلم والدولة، وأنهى تعليمه الثانوي بالمدرسة الصادقية قبل أن يستكمل دراسته العليا في فرنسا حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون. كان أستاذاً فخرياً لدى جامعة تونس وأستاذاً زائراً بعدة جامعات عربية وغربية. شغل منصب رئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) بين 2012 و2015 كما كان عضواً في الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون.

درس جعيّط في المدرسة الصادقية بتونس، وعنها قال إنه ممتن لأبيه لأنه لم يدخله مدرسة فرانكفونية، مما جعله يتقن اللغة العربية، بالرغم من أن أباه كان حداثيا يميل للثقافة الفرنسية، ثم التحق بالجامعة الفرنسية بباريس التي قضى فيها 8 سنوات قبل أن يعود إلى بلده ليتألم بجو “الديماغوجية والديكتاتورية” بحسب وصفه. كما عمل أستاذا في جامعة الزيتونة وكلية الآداب بتونس وقدم محاضرات في جامعات دولية.

كما ساهم في تكوين عدّة نقّاد ومفكّرين تونسيين، أبرزهم ألفة يوسف وعبد المجيد الشرفي وأمال القرامي.

منحته تونس وسام الجمهورية ونال العديد من الجوائز منها جائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية عام 2006، الجائزة الوطنية التونسية للعلوم الإنسانية 1989، جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدراسات الإنسانية والمستقبلية من الإمارات عام 2007 كما اختارته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في لبنان (شخصية العام الثقافية) لعام 2016.

أهم مؤلفاته

أصدر هشام جعيّط العديد من المؤلفات باللغتين العربية والفرنسية التي ناقش فيها جملة من الإشكاليات المحورية في التاريخ الإسلامي وأهم مكونات الموروث الحضاري. من مؤلفاته:

  • الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، بيروت، دارالطليعة، 1984
  • الكوفة: نشاة المدينة العربية الإسلامية، بيروت، دارالطليعة، 1986
  • الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، بيروت، دارالطليعة، 1992
  • أزمة الثقافة الإسلامية، بيروت، دارالطليعة، 2000
  • تأسيس الغرب الإسلامي، بيروت، دارالطليعة، 2004
  • أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة، بيروت، دارالطليعة، 2007
  • في السيرة النبوية. 1: الوحي والقرآن والنبوة، بيروت، دارالطليعة، 1999
  • في السيرة النبوية. 2: تاريخية الدعوة المحمدية، بيروت، دارالطليعة، 2006
  • في السيرة النبوية.3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام، بيروت، دارالطليعة، 2014

العباسيون والكلاسيكية الإسلامية

من أبرز مؤلّفات المفكرّ هشام جعيّط كتاب “الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية” و” الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي “ وقد قدّم طرحًا مغايرًا للتاريخ الإسلامي خاصة في “السيرة النبوية”.

واعتمد جعيط على ما كتبه أحد الكُتاب عن الكوفة، فألف كتاب “الكوفة”، تحدث فيه عن القبائل العربية وكيف تكونت أول مدينة عربية، ولم يكن لديه أي أفكار إيجابية عن عهود الازدهار والكلاسيكية الإسلامية والفترة العباسية والبذخ العباسي واتساع المملكة الإسلامية، وقد استهوته هذه المواضيع أكثر من دراسة البلاط العباسي والأمور المماثلة لذلك.

كما ركز هشام جعيّط في كتاباته اللاحقة على استيطان القبائل العربية وتكوينهم للمدن، والنظم التي فرضت في هذه المدن بسرعة كبيرة، وناقش أيضا الفترة الزمنية التي امتدت 20 سنة من حياة الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم- و10 سنوات بعد وفاته، وكيف تكون الدين وانتشر في الجزيرة العربية بعد مواجهته لمعارضة شديدة، وكيف تمت “هيكلته. وما لفت انتباه جعيط هو كيف تكونت الإمبراطورية الإسلامية بعد هذا بـ 20 سنة، فكان اهتمامه بهذه الفترة التحولية الكبيرة.

ويوضح جعيط أن ما استهواه في الدولة الإسلامية والدولة الأموية هو عبقرية الشعب، حيث يقول “قد عدت لعقد مقارنات في الحضارات القديمة لأن المقارنات تستهويني”.

نقد و نبش التاريخ الإسلامي

لم يكتف هشام جعيط بدراسته للتاريخ بما تلقاه على مقاعد الدراسة، بل دفعه عشقه له إلى القراءة للمؤرخين والمستشرقين بنهم ويقظة، فتعلم منهم الأسلوب الصحيح لكتابة التاريخ، حتى تحول إلى أحد أبرز المؤرخين الناقدين، ليس في تونس فقط بل على مستوى العالم.

وحظي كتابه “الفتنة” بتداول جماهيري واسع، وطبع منه 8 طبعات، والسبب أن الجماهير ترى أنها تعيش في فتنة. يقول المؤرخ جمال الدين فالح الكيلاني : “يدخل كتاب الفتنة لهشام جعيط في زمرة المراجع التاريخية الرئيسة التي لا غنى للباحث عنها، وبرهنت على أنّ المسلمين ولجوا باب العلم الحديث في استقراء تاريخ الإسلام، لقـد حاول جعيط أن يمارس تاريخاً تفهمياً إلى حد بعيـد، وأن يغوص حتى قلب المناخ الذهني والعقلـي للعصر، وأن يسعـى لفهم كيفية تفكير أهله، ومـا كانت عليه أصنافهم ومقولاتهم وقيمهم”.

أما مؤلفه “السيرة النبوية” الذي امتد في 3 أجزاء، فيتناول الجزء الأول الوحي بصفة عامة وتاريخ المقارنة بين الأديان، حيث يتعرض فيه لفكرة النبوة “الانخطافية” أو “اللدنية” (لحظة تلقي الوحي) وهي البادئة في مكة، وعلاقة الجنون بالنبوة والتوتر النفسي. أما الجزآن الثاني والثالث فقد ركز فيهما على التاريخ المحض، ودرس عن كثب تطورات الدعوة الإسلامية وما حدث بصفة دقيقة بالاعتماد على المصادر المتواترة.

أما كتاب “الرسول في المدينة”، فيصفه بأنه أصعب كتاب عنده من حيث أحداثه، موضحا أن الصعوبة تكمن “في التفكيك بين كل القوى الموجودة، ولماذا المدينة استقبلت النبي، وكيف وصل النبي خلال 10 سنوات إلى تكوين أمة وأن ينتشر الإسلام من جنين دولة وليس دولة كاملة، وكيف وقع بعض الانتشار في حياة النبي فقط”، ويقول إنه اتبع خطا يفسر هذا النجاح قد يكون مقبولا، بحسب وصفه.

وقسّم طريقة كتابة المسلمين عن الرسول عليه السلام إلى نوعين: كتابات دينية أو دفاعية ضد المستشرقين، ورأى أن ما كتبه مستشرقو القرن العشرين فيه بعض النواحي الإيجابية، و”أنا قد استفدت منها، وسعيت لكتابة تاريخ النبي بطريقة تكون أقرب إلى الوقع، حتى لا تتحول لمديح”.

أفريقيا وبلاد المغرب

بدأ جعيط باكورة أبحاثه عن أفريقيا وبلاد المغرب، وكتب عن أفريقيا في مجلات أوروبية مرموقة، وكان ذلك قبل أن يتجه إلى قراءة ما كتبه المؤرخون والمستشرقون عن التاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان.

وتحدث جعيط عن مشروعه كتاب “أفريقيا”، حيث لاحظ أن الأفريقيين يعتمدون على المصادر الشفوية لا المكتوبة، لكن المستشرقين لا يعتمدون على المصادر الشفوية، وهو يرى أن المصادر الشفوية مهمة مع إخضاعها للنقد لبيان إن كانت معقولة أم غير معقولة.

ذكرى ومرجعية للأجيال

هذا، ونعت تونس مفكرها ومؤرخها هشام جعيط، وقالت الرئاسة التونسية إن “ذكراه ستظل خالدة”. وقال الرئيس التونسي قيس سعيد “لقد فقدت بلادنا برحيل المرحوم هشام جعيط شخصية وطنية فذّة وقامة علمية مرموقة ستظل ذكراها خالدة في تاريخ الساحة الثقافية في تونس والعالم العربي والإسلامي”، وأضاف: “ستبقى الأجيال القادمة تذكر إسهاماته وتتطارح أفكاره ودراساته ومؤلفاته العديدة في مجالات الفكر والتاريخ والعلوم الإنسانية”.

من جانبها قالت وزارة الشؤون الثقافية التونسية في بيان إن الراحل ترك أعمالاً فكرية وحضارية تمثل “مرجعية للأجيال الحاضرة والقادمة”. ونعى أيضاً المجمع التونسي للآداب والفنون “بيت الحكمة” جعيط الذي تولى رئاسته بين عامي 2012 و2015.