6 – قيمة العمل الصالح

تعاني مجتمعاتنا العربية من تمدد آفات المحسوبية، والرشوة، وطرق الاكتساب غير المشروعة والتي أفسدت نظامنا القيمي، وكان من نتائجها تراجع قيمة العمل ذاته كطريق للكسب والحصول على العائد المناسب للحياة منه، بالإضافة إلى حدوث صدمات اجتماعية ونفسية لأصحاب القدرات والتأهل العقلي والمواهب لحصول من لا يستحقون على عوائد ليست من حقهم وذلك عن طريق الرشى والوساطة والمحسوبية، مما تسبب في عدة ظواهر اجتماعية منها هجرة العقول، والحنق على المجتمع، وتوليد مشاعر الكره لدى فئات تشعر بالغبن نتيجة أنها لم تصل إلى ما تستحقه بحسب قدراتها ومؤهلاتها الموضوعية، وهدر طاقات كبيرة للمجتمع، والشعور بالعزلة والغربة عن الواقع والتقوقع والانسحاب من دائرة الفعل…،..

وقيمة “العمل الصالح” التي ندعو المعلم العربي إلى غرسها في النشء هي قيمة “مَظَّلةٌ” تقصد تحقيق قيم عدة منها:

1. تقدير العمل، واعتباره السبيل الوحيد الشرعي والمجتمعي للحصول على المكتسبات، وأن التمايز في المكتسبات الحياتية مصدره ومرجعه الوحيد هو تمايز القدرات والمؤهلات -وليس شيء غير ذلك-

2. والجدية

3.والمثابرة

4.والأمانة

5.والأخلاقية.. هذا كله وما يشابهه هو طريق الوصول للمكتسبات الأعلى دائمًا.

7 – التربية بالغيب

ينطلق الإنسان المسلم في حركته الكونية من الغيب إلى الواقع والشهود؛ لأن المسلم ينطلق من قوة الإيمان -أي الغيب- التي تمثل له “وقود” حركته في ذلك الكون، ولا ينطلق من المادة أو الواقع إلى الغيب…يقول تعالى “الذين يؤمنون بالغيب”..وبخطية هذه الحركة ( من الغيب إلى الشهود) أدرك المسلم الكون..واكتشفه.. وجاهد لهداية من فيه..ورخصت أمامه الشهوات والنزوات بكاملها..وهو ما تبدى في النموذج النبوي والراشدي والبيت النبوي ونماذج متعددة عبر التاريخ الإسلامي بشكل واضح..وعندما فقد المسلم الغيب -عاملًا للحركة- عاد وانزوى في التاريخ..لأنه اعتمد على حركة مخالفة لما يعتقده أي الانطلاق من المادة ..وفقد مع ذلك قوة الإيمان ووقوده.. فلم تعوضه المادة ذلك الوقود -كما يقول مالك بن نبي: وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية ألا وهو الإيمان-  فهذه حركة مناقضة-أي التي تتم بمعيارية الواقع المادي الأرضي- لمنهجه الذي اعتقد فيه.. وهي حركة معكوسة له ولنشاطه الفكري والحركي.. وتشبهًا لتلك الحركة التي ينطلق منها غير المؤمن.

إن من أهم عوامل الفساد والانحراف في الشخصية العربية التي أصيبت بإنتاج الفساد والتمرس عليه وإلفه والتعود على القيام أو حتى مساندته إيجابيًا (بمشاركته) أو سلبيًا (بالصمت عليه) ..إنما يرجع بالأساس إلى أن هذه الشخصية المنتجة لهذا الفساد أو الانحراف أو المساندة له بشقيه الإيجابي أو السلبي إنما توارى عن نظامها القيمي والأخلاقي ذلك “الغيب”، وابتعدت عنه في برامج تنشئتها التي رسمت لها منذ الصغر، فغاب وجود “الله” في هذه الخارطة القيمية، لذا ما رعوه حق رعايته في الدنيا، وتناسوا ذلك الوجود الذي يمثل منطلقًا أساسيًا لبناء الشخصية السوية في المنهج التوحيدي، والتربية بالغيب تتعدد جوانبها والتي أهمها: المعرفة الحقة لله تعالى، ومعرفة اليوم الآخر، ومعرفة الثواب والعقاب، ومعرفة أن الدنيا مزرعة الآخرة، وهذه كلها معارف أساسية في بناء الشخصية العربية المبتغاة لمواجهة تيارات الانحراف والفساد الممنهجة، وإنقاذ ما تبقى من نسيج مجتمعنا العربي القيمي والأخلاقي.

8 – التربية على الهوية وبناء دوائر الانتماء

     اجتاحت الأمة العربية والإسلامية أعاصير الحداثة وما بعدها، والعولمة وما بعدها، وكان من أهم تأثيراتها العصف بقيم الهوية والانتماء، ويظهر ذلك في السلوك الخارجي للإنسان العربي، وفي الذوق العام، وفي الموقف من الثقافة العربية وما تحمله من تقاليد راسخة وتراث قيمي خاص بها، وكان الانسلاخ عن تلك الذات هو أحد المخاطر الوجودية التي تهدد أمتنا، فالشخصية التي أنتجتها مؤسساتنا التربوية والإعلامية هي شخصية “المسخ” أو “الشبيه” أو “المنبت” الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.

والمسؤولية التي يضطلع بها المعلم العربي في ضوء ذلك هي مسؤولية وجودية، تتمثل في استعادة الذات العربية-الإسلامية، استعادة تقاليدها الراسخة تقاليد الرجولة العربية، والمروءة والشرف والكرامة، إن التربية على الهوية من متطلباتها أن يرسم المعلم في السبورة الجوانية للتلميذ دوائر انتمائه الخمسة، ويحددها له بشيء من التجسيد والتأمل معًا، هذه الدوائر الأربع للانتماء هي: دائرة ذاته الفردية، ودائرة الأسرة، ودائرة الوطن المحدود جغرافيًا، ودائرة العالم العربي والإسلامي فالرابطة الدينية هي أقوى الروابط العربية التي حقق بها العرب حضارة وتاريخ، ثم دائرة الإنسانية باعتبار أن الإنسان العربي حامل رسالة هداية وإنقاذ العالم وكما أنه لا ينبغي للمنقذ أن يكون تابعًا ذليلًا، فإنه أيضًا لا يمكن أن يكون منعزلًا متكهفًا في كهفه الخاص عن العالم. وهذا يعني بناء الهوية على الأصالة والانفتاح الإنساني الراشد.

9 – التربية على محورية “الزمن- الوقت”

يقوم بناء الحضارة -كما قال مالك بن نبي- على معادلة ثلاثة الأبعاد (الإنسان-التراب-الوقت)، وكم فقدت أمتنا وتفقد من الوقت والزمن المقدر لها في صناعة حضارتها، وأصبحت أمتنا تعاني –رغم تراجعها الحضاري- من الفراغ أي الوقت الذي لا يؤدى فيه عمل نافع، وهنا تظهر رسالة المعلم الواعي الذي يبرمج عقول طلابه على محورية الوقت في صناعة مستقبلهم الذاتي ومستقبل مجتمعهم ومستقبل أمتهم، وأن يجعل من مهمته العليا “بناء رجالٍ يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى”. وكيف لا والقرآن ذاته يؤكد على تلك المحورية –أي محورية الوقت- في أبعاده الثلاثة ( الماضي والحاضر والمستقبل).

إن آية واحدة في القرآن تجمع عناصر وَحدة الزمن الثلاثة: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر:18]..  (الماضي) لتنظر (والحاضر) المخاطب والمستقبل (غد)..وهذا الجمع لوحدة الزمن يوحي بعدة تأملات للمعلم الرسالي والتي يجب أن يبلغها البلاغ المبين لطلابه، منها:

(أ) أن حياة المسلم ليست منفصلة الأجزاء بل هي وحدة كلية يمثل فيها الماضي حصيلة الحاضر وكلاهما (الماضي والحاضر) يمثلان المستقبل..ومن هنا كان طلب المولى عز وجل للمسلم بتأمل تاريخه وحاضره استعدادا لمستقبله..وهنا يرجح الإسلام المستقبل ويطالب المسلم بأن يصحح ما حدث في ماضيه، من أجل تعديل حاضره الذي هو رصيد المستقبل يأخذ منه ويضيف إليه…

(ب) أن المسلمَ مطالب بتعديل سيره بصورة دائمة وفقًا لسنن التغير الجارية (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]، ووفقًا للغاية التي يسعى إليها (لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56] و (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61].

(ج) سقوط الجبرية والقدرية وتأكيد مسؤولية الإنسان وحريته في الكون، مسؤوليته عن حركة التاريخ تاريخه هو الذاتي وتاريخ مجتمعه وتاريخ أمته وعالمه، وحريته في تعديل سير ذلك التاريخ أو الإبقاء على ما هو عليه، لأن الإنسان المطالب بالتأمل هنا (وَلْتَنْظُرْ) يمتلك حرية أصيلة وقديمة من الله تميز بها عن باقي المخلوقات وأشرفها..