السالك بن الشيخ

عكَفْتُ على رواية “وادي الحطب” للكاتب الشاعر الشيخ أحمد ولد البان، والحقيقةُ التي لا مِراء فيها أن لغتَها الصَّقيلة وأسلوبَها الأخَّاذ منحاني طاقة ضافية شدَّتْني لمواصلة القراءة حتى أتيتُ على آخر الرواية.

تملكتْني الغِبطةُ وأنا أرتِّل حروف هذه القصيدة النثرية البديعة وأتنقل بين فصولها ـ لأني لا أريد أن يسبِقني أحد لما أودُّ قولَه عن “وادي الحطب” أو بعبارة أخرى لا أريد أن “يقع الحافر على الحافر”

لكن عزائي في ذلك أن الأدب الخالد لا تَبْلى جدتُه ، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرّد فـ”وادي الحطب” مهما تفيأ النقادُ ظلالهَا فسيظل فيها مجالٌ للقول فسيح, نظرا لخصوبة مادتِها وجدة طرحها وبراعة أسلوبها…

رواية “وادي الحطب” ليست من أقصرِ الروايات إذ تمتد في حدود ثلاثمائة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط موزعة على عشرين فصلا .

ولكني بعد إرجاعِ النظر وتَطْواف التأمل استطعتُ أن أرُدَّ موضوعها إلى ثلاثِ قضايا رئيسية أزعمُ أنه لا يخرج عنها:

الأولى: قضية القبائل الموريتانية وتعاطيها مع المستعمر، وخصوصا شيوخ القبائل والصراعات الدائرة بينهم على النفوذ.

الثانية: قضية الاستعباد القاسي والتهميش الممض الذين عانت منهما شريحتا (العبيد، والمعلمين).

الثالثة: قضية الفن والجمال ، أو لِنقل : وصف العادات الاجتماعية وخصوصا منها المتعلقة بالفن (عزفا ورقصا وغناء) وبالجمال (طبيعةً وزينة)…وتوسع الوصف ليشمل الملابس والمفارش والمآكل والمشارب والأدوات المستخدمة  لذللك بما فيها أدوات التدخين وأدوات “النَّشُوق”(الشم)

أما عن وصف الطبيعة فحدث ولا حرج…

قد يقول البعض إن قضية المحظرة كانت واجبةَ الذكر بين هذه القضايا الثلاثِ، ولكنها في رأيي جزء من القضية الأولى ، نَعم… جزء مهم ، حيث مثلت المحظرة وطلابُها وشيخُها مدخلا أساسيا للحديث ولو قليلا عن المقاومة الثقافية التي يبدو من خلال الرواية أنها اللون المقاوم الوحيد الذي استطاع الصمود، أمام المخاوف والمطامع حتى قُتل شيخها ـ رحمه الله ـ ثابتا على الحق شهيدا من طرف بني جلدته الذين سمموا له “النَّشُوقَ” فمات بسببه.

استطاع الكاتب أن يسيطر على الحبكة الفنية للرواية ، فافتتح روايته بعُقْدة “اختفاء خطري” وظلت العقدة قائمة والعيون شاخصة ترمق من حين لآخر ظهورَ أي خبر يمكن من الحصول على خطري الذي لا يُدرَى أهو”مرمي في بئر عميقة من آبار قلعة تامشكط مقيدَ اليدين والرجلين، لايستطيع دفعَ لدغات العقارب والأفاعي” …أم أنه “في أقصى مناكب الأرض يتناوب على تعذيبه زبانية الزنوج السود والنصارى البيض… أم أنه أصبح جثة مرمية في فلاة تتناهبها وحوش الأرض”(وادي الحطب،67،68)

ظلت هذه الأسئلة  تكبر وتتوالد …حتى الفصل التاسع عشر ، الذي جاء فيه الحل على نحوٍ مَا من المفاجأة لم يكن بذلك الحماس المطلوب ، رغم محاولة الكاتب إنعاش المشهد بجنون “تربه فال” الذي رافق الحل.

والفصل التاسع عشر هو الفصل الأخير عمليا في الرواية من الناحية الفنية على الأقل، لأن الفصل العشرين مجرد تلخيص وقولبة لأحداث الرواية ورسائلها.