في الربع الأول من عام ١٨٢٠ وُلد غلامٌ، ولم يمت حتى يومنا هذا.

ذلك أن المؤلفين العظماء لا يموتون حتى تموت كتبهم، والكتب لا تموت ما بقي في الأرض من يطالعها.

اسم الغلام: رينهارت دوزي، وقد جاء مولده في مدينة ليدن الهولندية، التي تضم جامعتها نخبة المستشرقين في العالم.. أولئك المستشرقون الذين تولوا نيابة عن أوروبا كلها عملية إشباع فضول الغرب تجاه الشرق، فكان منهم الباحث في التاريخ، والمتوسع في العلوم الشرعية، والجاسوس المتخفي، والباحث النزيه وغير النزيه، وقدموا على مدى قرون إضافات حقيقية في فروع معرفيةٍ شتى.

شبّ دوزي في ليدن، وبدا للناس أنهم أمام فتى نبيه، شديد النباهة، حريص على التعلم، مغرم باللغات، وما إن تجاوز تعليمه الثانوي حتى التحق بجامعة ليدن، وأخذ يتناول اللغات بها كما يتناول الناس حبات البسكويت، فتعلم العربية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، ولم تكفه لغات المعاصرين فعاد إلى لغات قديمة كالعبرانية والكلدانية والسريانية.

وأثناء دراسته بالجامعة، وُلِد دوزي الباحث الرصين، كما يولد طفل قبل ميعاد الولادة بمدة، لكنه يخرج من بطن أمه إلى روضة الأطفال راكضاً.

وليس في هذا التشبيه مبالغةٌ البتة؛ فقد عقد المعهد الملكي الهولندي مسابقةً على مستوى أوروبا، في كان موضوعها كتابة بحث عن الملابس العربية عبر التاريخ، تقدم الباحثون إلى تلك المسابقة، من مختلف البلاد الأوربية، وفيهم الأستاذ الجامعي، والمستشرق الخبير، والكاتب التحرير، وفاز البحث الذي قدمه الطالب الجامعي رينهارت دوزي، وكان ذلك فتحاً مبيناً، وإشارة انطلاق في ميدان البحث العلمي الرصين، انطلق دوزي في رحلته البحثية، واثقاً من قدراته، باذلاً أقصى جهوده، فتتابعت أبحاثه العلمية حتى نال الدكتوراه وهو في الرابعة والعشرين من عمره. حينها كان قد أنجز بحثاً عن “أخبار بني عباد عند العرب”، وترجم مخطوطة عن تاريخ بني زيان في تلمسان.

وبعد الدكتوراة، تزوج، وحمل امرأته معه إلى ألمانيا، وفيها أخذ يزور المكتبات، ويستكشف المخطوطات، ويطالع النفائس، ويتعرف إلى المستشرقين.

ولما رأى بعينيه ما أفادته تلك الرحلة، عزم أن يكررها في أول فرصة تتاح له، ولكن إلى مكان آخر، ولم يحل الحول حتى كان دوزي في أكسفورد، يطالع المخطوطات وينقّب عن النفائس، ويكتب ثمرة رحلته في هولندا.

ولأنه اكتشف المزيد من المراجع حول تاريخ بني عبّاد حكام إشبيلية؛ فقد أصدر كتابه عنهم على ثلاثة أجزاء، بين كل جزء وآخر بضع سنوات من البحث والتنقيب والتصحيح والتنقيح.

وهكذا يصنع بأهله حب العلم، إذ يتجلى في قصة هذا الكتابِ وتمدده الدائم مقدار ما ينطوي عليه وجدان دوزي تجاه موضوع بحثه من اهتمام بالغ وحرص على الاستقصاء والاستيعاب، لا يعيقه عن نشر ما توصل إليه ما دام في الزمن بقية للاستدراك والتصحيح.

وعلى الرغم من كل تميزه العلمي وتفوقه البحثي، لم ينل دوزي من المجد أكثر من وظيفة ذات أجر ضئيل وعمل ثقيل، إذ عمل في أحد أقسام المخطوطات الشرقية، يفهرسها ويشرف عليها، ثم أخذ يصدر سلسلة من المقالات والتحقيقات والدراسات العربية، كان منها تحقيقه لـ “تاريخ الموحدين” لعبدالواحد المراكشي، وتحقيقه لكتاب “البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب” لابن عذارى المراكشي، وألف كتاباً ضخماً هو “أبحاث في التاريخ السياسي والأدبي لإسبانيا خلال العصر الوسيط”، كما أصدر فهرساً للمخطوطات الشرقية في مكتبة جامعة ليدن. ولا ريب أنه كان عملاً جباراً، لأن مكتبة جامعة ليدن واحدة من أهم وأكبر المكتبات الأوروبية المتخصصة في العلوم الشرقية.

ثم صار دوزي أستاذاً لكرسي التاريخ العام، وبدأت مرحلة جديدة من حياة دوزي تمتد عشر سنوات من التفرغ العلمي أنتج بعدها دوزي درة أعماله، وهو كتابه “تاريخ المسلمين في إسبانيا”، في أربعة مجلدات.

ويقول عبدالرحمن بدوي عن هذا الكتاب أنه “من أكبر الأعمال التاريخية التي كتبها المستشرقون”، وهذه عبارةٌ تعني الكثير الكثير!

وكتب دوزي بعد ذلك “تاريخ الإسلام” منذ عهد النبي حتى سنة تأليف الكتاب وهي ١٨٦٣ للميلاد، ثم ألّف كتاباً أثار غضب اليهود ورضى قوم آخرين، كان عنوانه “اليهود في مكة”.

الآن، وقد جاز دوزي الأربعين من عمره، آن لجانب عجابٍ من اطلاعه أن يبين ويظهر.

لم يكن إقبال دوزي على تعلم اللغة العربية إقبالاً عادياً، ولا كان اطلاعه عليها ضحلاً، بل كان إقباله نهماً، وكان اطلاعه واسعاً إلى حد مذهل، ولا أدل على ذلك من كتابه “ملحق المعاجم العربية” الذي صدر في مجلدين، وفيه يجد المطالع ما لا يجده في المعاجم المرجعية كلسان العرب والصحاح ونحوهما، من المصطلحات العربية المستعملة في الحياة اليومية والحرف والصناعات والأدوات.

وكان من بين ما اشتغل به دوزي، تحقيق كتاب العالم الجغرافي المسلم محمد بن محمد الإدريسي، المسمى “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” بالتعاون مع المستشرق دي خويه.

وظلّ دوزي يبحث، فيأتي بالجديد المفيد، ويستدرك على المستشرقين الباحثين في شؤون التاريخ والتراث الإسلامي، فيصحح أغلاطهم ويبين أوهامهم.

وما إن جاوز الستين بسنوات ثلاث حتى غادر هذه الحياة، في عام ١٨٨٣ للميلاد.

أولئك الناس إن عدّوا وإن ذكروا    ومن سواهم فلغو غير معدود!