المفقود هو الذي لا يعلم عن خبره شيء أ حي هو أم ميت؟ ولا يدرى عن حقيقة مكانه – سواء في أرض الإسلام أو غيره – ولا يحصل عن أمره شيء البتة، ونجد في صعيد الفقه الإسلامي أحكام المفقود مفصلة حيث لا تلغي هويته ولا يهدم حرمته، لأنه عبارة عن شخص مؤمن مفقود بين أهله وأحبته، ويجب الاعتناء بأحواله وأحكامه تعبيرا عن قوله : «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.»[1] ثم تتمثل المشكلة في أن زوجة المفقود كالمعلقة، لا هي ذات زوج يقوم برعايتها ويحميها وتأنس به وتأوى إليه، وكذا لا يمكن قطع القول بأنها أرملة تتصرف في نفسها بعد أجل مسمى، وما أكثر هذا الصنف من النساء في الوقت المعاش حيث حلت ويلات الحروب والهروب في كثير من بلاد الإسلام، مما أدى إلى فقدان كثير من الأزواج.

وفي الأسطر الآتية نظرة عامة عن حال زوجة المفقود وفق أحكام الشريعة الإسلامية السمحة.

مدة انتظار زوجة المفقود

للفقهاء أقوال تشرح مدة انتظار زوجة المفقود، ومنهم من رأى أنها لا تحل لأحد بعده إلا أن يأتي خبر يقين عن موته، أو تنتظر إلى المدة التى يحكم في أمثاله بالموت، أو تقدر بمائة سنة من يوم مولده، وحجة هذا القول:

1- حديث “امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها الخبر”

2- قول علي رضي الله عنه فيها “هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت، أو طلاق”

3- أن النكاح ثبت باليقين ولا يزول إلا باليقين، وليس هناك برهان على موت المفقود حتى يفرق بينه وبين زوجته.

وأما الحديث المذكور فإنه لا يفرح به من جهة الصحة، وقد ضعفه أئمة الحديث،[2]إذ لو صح لما يبقى لأحد كائنا من كان إلا السمع والتسليم.

وكذا الأثر المروي عن علي فإنه مرسل كما قال ابن قدامة[3] والإرسال ضرب من الحجج الداحضة، لا سيما قد جاءت رواية أخرى عنه مسندة توافق قول جماعة من الصحابة في المسألة، وعلى فرض صحة الأثر فإنه يحمل على المفقود الذي عرفت سلامته.[4]

والصحيح الذى مال إليه غير واحد من المحققين أن حكم زوجة المفقود يتغير باعتبار حال المفقود، فمن تيقنت سلامته (أي: كان ظاهر حالته السلامة) ليس كمن كان ظاهر حاله الهلاك، والذى غالب أمره السلامة فإن الإمهال في حق زوجته متجه، كمن فقد في بلاد المسلمين في غير زمن وباء مثلا، أو خرج لسفر بعيد ونحوه، وبهذا قضى عمر بن الخطاب حيث ضرب للمفقود من يوم جاءت امرأته أربع سنين ثم أمرها أن تعتد عدة المتوفى عنها زوجها ثم تضع في نفسها ما شاءت إذا انقضت عدتها، وهو مروي أيضا عن عثمان وبه قال عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وقتادة، والليث، وعلي بن المديني، وعبد العزيز بن أبي سلمة. ورأوا أن:” التربص بأربع سنين أمر تعبدي، أو أنه أكثر الحمل عندهم.[5]

التفريق بين المفقود وزوجته طلاق أم فسخ؟ وما نوعية العدة؟

دار الكلام بين العلماء في حقيقة الفرقة التى يوقعها القاضي بين المفقود وزوجته، هل تقع طلاقا أو تقع فسخا؟
ثمرة الخلاف: لو رجحنا القول بأن الفرقة هنا تعد طلاقا، معنى ذلك أنها تحسب على الزوج إحدى ثلاث تطليقات التى أوتيت في الحياة الزوجية، ومن ثم لم يبق له التطليق إلا اثنان فحسب، وأما على القول بأن الفرقة فسخا لا طلاقا فلا شيء يحسب على الزوج من الطلاق.
ويفهم من عبارة المالكية أن الفرقة الحاصلة بين المفقود وزوجته إنما هي طلاق، لأنه جاء عن الإمام مالك أن:” كل فرقة يوقعها القاضى تكون طلاقا بائنا إلا الفرقة بسبب الإيلاء وعدم الإنفاق فهي رجعية”[6]

بينما ذهب الحنابلة إلى أن الفرقة بسبب غيبة الزوج فرقة فسخ وليست طلاقا، لأنها فرقة لم تصدر عن الزوج، ولم يجعلها الزوج إلى أحد، فإنما فرقة بحكم القاضى فتكون فسخا.[7]

ولعل هذا القول الأخير هو الأحكم، إذ فيه تخفيف وتيسير في الحياة الزوجية، لأنه لا دخل للزوج في تطليق زوجته، وكذا بما عهدنا من مقصد الشرع أنه لا يدعو إلى فتح باب الطلاق في تعليماته.   

وأما عدة زوجة المفقود إذا قضى القاضي بموت زوجها فإنه يعتبر انهاء الحياة “الزوجية حكما من تاريخ الحكم بالوفاة، وبانت زوجته واعتدت للوفاة جبرا، وهي بينونة وفاة، لا بينونة طلاق أو فسخ”[8]

ظهور المفقود بعد زواج امرأته

لو آثرت امرأة المفقود البقاء في بيت الزوجية على العقد فإنها امرأته اتفاقا بين أهل العلم، وأما إذا تزوجت بعد فقدان زوجها ثم رجع الزوج؛ وحينه ينظر في هذا الزواج على النحو التالي:

1- لو خطبت امرأة المفقود في مدة التربص وتزوجت فلا عبرة بهذا الزواج ألبتة، قالوا في الموسوعة الفقهية:” فإن تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه فنكاحها باطل، لأن حكم الزوجية بينها وبين زوجها الأول على حاله.” [9]

2- إذا بان المفقود حيا بعد انقضاء عدة امراته وتهيأت للزواج من رجل آخر، فالحكم في هذه الحالة أنها لم تزل زوجة له، وهذا هو قول عامة العلماء تقريبا، لأن حكم القاضى بموت المفقود والذي تحل زوجته لآخر، إنما هو حكم ظاهر لا باطن، ثم تبين أنه حكم خطأ بظهور المفقود ويجب العدول عنه، وترجع إليه زوجته.

وقال ابن قدامة في المغني:” فإن قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج فهي امرأته”.[10]

3- لو حكم القاضي بفسخ نكاح امرأة المفقود بعد مضي مدة التربص وانقضاء العدة، ثم تم العقد بينها وبين رجل آخر، إلا أنه لم يتم الدخول بعد ثم جاء الزوج الأول – المفقود – أو تحقق أنه حي، فالحكم هنا –والعلم عند الله- نظير حكم المسألة السابقة، أي لم تزل زوجة المفقود زوجته وحياة زوجية بينهما باقية لم تخرم، وهذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم بالفقه كما نقله ابن قدامة في المغنى.

4- إذا عاد المفقود بعد الأجل المقضي لزوجته، وتزوجت ودخل بها الزوج الثاني وربما أنجبت له أولادا، فإن للمفقود بالخيار بين استرجاع زوجه أو إبقائها تحت الزوج الثانى مع أخذ الصداق، لقصة مأثورة عن عمر رضي الله عنه” أن رجلا من الأنصار خرج يصلي مع قومه العشاء فسبته الجن ففقد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقصت عليه القصة فسأل عنه عمر قومه، فقالوا: نعم خرج يصلي العشاء ففقد، فأمرها أن تربص أربع سنين، فلما مضت الأربع سنين أتته فأخبرته، فسأل قومها فقالوا: نعم، فأمرها أن تتزوج فتزوجت، فجاء زوجها يخاصم في ذلك إلى عمر، فقال عمر:” يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته ” فقال له: إن لي عذرا يا أمير المؤمنين، قال: وما عذرك؟ قال: خرجت أصلي العشاء فسبتني الجن فلبثت فيهم زمانا طويلا فغزاهم جن مؤمنون أو قال: مسلمون، شك سعيد- راو القصة-، فقاتلوهم فظهروا عليهم فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم، فقالوا: نراك رجلا مسلما ولا يحل لنا سبيك فخيروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي فاخترت القفول إلى أهلي، فأقبلوا معي، أما بالليل فليس يحدثوني، وأما بالنهار فعصار ريح أتبعها، فقال له عمر رضي الله عنه: ” فما كان طعامك فيهم؟ ” قال: الفول وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابك فيهم؟ قال: الجدف،[11] فخيره عمر رضي الله عنه بين الصداق وبين امرأته”

وفي رواية: فخيره عمر رضي الله عنه بين الصداق وبين امرأته فاختار الصداق”[12]

وبهذا قضى عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا، وعليه جمهور أهل العلم.

وتبين أن أي وقت ظهر المفقود من غيبته فهو أحق بزوجته أبدا إن شاء، وإن كانت زوجته قد جاءت بأولاد لرجل آخر، فالأولاد ينسبون إلى الزوج الثاني شرعا لا سفاحا، وهذا هو الأقرب إلى الصواب من أقوال أهل العلم، والعلم عند الله.


[1]رواه مسلم (2586).

[2] قال ابن أبي حاتم في «علله»: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: حديث منكر. انظر البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير. 8/217

[3] ينظر: المغنى 8/132

[4] ينظر: المصدر السابق.

[5] ينظر: الموسوعة الفقهية 29/334

[6] أحكام المفقود في الشريعة الإسلامية ص:94

[7] كشاف القناع 5/124

[8] الموسوعة الفقهية 29/66

[9] المصدر السابق 38/270

[10] المغنى 8/133

[11] قال قتادة: والجدف ما لا يخمر من الشراب.

[12] رواه البيهقي في السنن (15570).