لطالما سمعت من أصدقائي حديثا عن مشكلة تعنيف الأبناء من قبل الآباء قصد التربية، سواء كان تعنيفا بالكلام أو تعنيفا بالضرب.

وهم يسألون طلبا للحكم الشرعي وطلبا للتوجيه التربوي في هذه الظاهرة التي تتكرر بين الآباء وأبنائهم.

وهذه الظاهرة التربوية تؤرق الآباء وتشكل لهم عقدة نفسية تترنح ووتقلب بين الإحساس بالذنب والشعور بمشروعية الفعل لأنه فعل بغرض التأديب لا بغرض التعنيف لذاته.

 وكثير من الآباء الذين عرفتهم يعتقدون أن الأصل في التأديب هو الموعظة الحسنة ثم التأديب بالعنف اللفظي والجسدي.

ولاشك أن ظاهرة التأديب بالضرب ظاهرة لها أسبابها وسياقاتها النفسية، فكثير من الآباء يفعل بأبنائه ما عايشوه مع آبائهم وهم على ءاثارهم التربوية مقتدون ومقتفون، ولا نزعم أننا فيما سنكتبه سنلم بهذا الموضوع وإشكالياته، حسبنا أن نلفت اهتمام القراء الأعزاء إلى هذه الظاهرة التربوية.

لا يمكن أن نقارن المجتمعات العربية الاسلامية بالمجتمعات الغربية، وكل مقارنة بين المجتمعات تكون في الغالب خاطئة؛ لأنها لا تراعي الظروف المختلفة والفوارق الشاسعة بينها، فهي فوارق اجتماعية واقتصادية ونفسية ودينية.

في الهدي النبوي نجد أنسا رضي الله عنه يحكي خدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فوالله ما نهره ولا قهره بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

ولا غرو في ذلك فهو الرحمة المهداة والمبعوث رحمة للعالمين.

ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة لمن كان يرجو تربية سليمة لأبنائه خالية من العقد النفسية التي تجعل الحياة مظلمة في البيوت المسلمة.

تكلم الأستاذ محمد قطب رحمه الله في كتابه (تربية الأبناء في الاسلام) عن مشكلة ضرب الأبناء وناقش قضية منع التأديب بالعنف مطلقا سواء كان عنفا لفظيا أم عنفا بدنيا، ولكنه تساءل: ماذا لو أن الطفل انحرف؟ ألايقتضي ذلك تقويما بالضرب بعد فشل محاولات التقويم بالحكمة والموعظة الحسنة؟

ألم يقل نبي الرحمة أن الأبناء يؤمرون بالصلاة لسبع ويضربون عليها لعشر إن هم تهاونوا وفرطوا في أمرها؟

يخبرني بعض الأساتذة الفضلاء قائلا إن الذي لا يضرب أبناءه بين الفينة والأخرى عند وجود المقتضي لهذا السلوك التربوي العنيف، فهو لا يحبهم!!

قلت له كيف؟

قال لي: إن الابن إذا لم يتذوق شيئا من التعنيف البدني الرحيم عند أبويه في مرحلة التنشئة فإنه يخشى عليه في الكبر أن يصطدم مع أول حالة يتعرض لها للتعنيف فتكون سببا في زلزال نفسي قد يصيبه بالتدمير. (فهو وإن اتخذ صورة عنيفة لكن صدور التعنيف من قبل الأبوين أضفى عليه من طقوس الرحمة ما يمكن إدراكه عند التدبر والتأمل في المآلات).

وقال لي آخر: إن تأديب الأبناء بالضرب ينبغي أن يكون آخر الدواء التربوي، كالكي. أما التربويون الذين ينادون بأن الطفل لا يكذب ولا يخطئ فهم واهمون، ويروجون لدعاياتهم التربوية العرية عن الواقع وعن الدراسات العلمية في هذا الشأن. (وهنا يطرح سؤال عن مصداقية الدراسات التربوية والعلمية التي نسمعها في المحاضرات).

ولذلك فالأب أو الأم إن قاما بتعنيف أبنائهم بالضرب فعليهم أن يكونوا رحماء وأن يتركوا رسالة لأبنائهم بأنهم إنما نالوا ذلك جزاء على فعلهم، ولا بأس بأن يدخلوا معهم في حوار كأن يسأل الأب ابنه هل ظلمتك بضربي لك؟

وفتح هذا الحوار مع ضم الطفل وعناقه بعد ثلاثة أيام من التعنيف، من شأنه أن يترك في الابن رسالة قوية حول حب أبيه وأمه له، وأن الضرب والتعنيف كان طارئا و لهدف تربوي ليس غير.

ونحن في هذا المقام نتكلم مع الآباء الأسوياء، الذين لم تنحرف بوصلتهم السلوكية والأخلاقية، وأعني بذلك الحديث عن الأسر التي يهتم فيها الأبوان بأبنائهم .

أما ظاهرة تعنيف الأساتذة لتلاميذهم فهي ظاهرة منتشرة أيضا في التعليم العمومي وتحتاج هي الأخرى إلى مقاربات تربوية نظرية وعملية.

وكثير من الآباء لايقبل لأستاذ أن يعنف أبناءه ويجعل هذا الحق خاصا به.

ومعالجة هذه الظاهرة تحتاج إلى جهود تربوية تمارسها الأكاديميات ووزارات التربية الوطنية في العالم العربي يشارك فيها الأساتذة والاباء جميعا، لأنهم معنيون بتربية أبنائهم وإنشاء جيل سليم نفسيا خال من العقد النفسية.

ولا ننس أن أهم شيء يمكن أن تستثمر فيه الدول النامية هو الإنسان، وبناء إنسان سوي سليم هو فاتحة مجتمع قوي سليم يعرف حقوقه وواجباته.

وفي ديننا وتراثنا الاسلامي مايمكن أن يستنار به في علاج هذه الظواهر التربوية واضعين نصب أعيننا قول رسولنا الرحيم صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة: “ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه”.