تصدرت رواية الكاتبة العُمانية جوخة الحارثي الأحداث، نظرا لفوزها بالمان بوكر العالمية، وهذا التصدير جعل جوخة الحارثي روائية عالمية، ينتبه إليها العالم الغربي ومن بعده العالم العربي، وبوأها مركز ثاني روائي عربي، وأول روائية عربية يُعتَرف بها عالميا.

ومن حَسن الأمور أن كتابة جوخة الحارثي لاقت اهتماما والتفاتا نقديين – قبل الاعتراف بها عالميا- محدودين ولكنهما نوعيين، منها التقدير الداخلي وفوز روايتها «نارنجة» بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب، وهي أهم جائزة عربية، ومنها مقالٌ رشحناه، درس فيه محمد برادة «سيدات القمر» وانتبه إلى ظواهر فيها هي تقريبا السمات نفسها التي جعلتها تُحقق العالمية (جريدة «الحياة» 2012)، ويُمكن أن نحيل فقط على هذا المقطع من قراءته المتأنية الواعية، «على هذا النحو، تبدو «سيدات القـمر» إحـيـاء لـمشاهد وأحداث ماضية، وأخرى تنتمي إلى الحاضر، من خلال فـئات تـمثـل المجتمع الـعـُـماني، وقـد اخـتـرقـتـْه أواليات التحديث وهو يخوض غمار التحول، مشدوداً بأكثر من وثاق إلى الموروث، لكنه مندفع، في الآن نفسه، نحو المستقبل، تحدوه قوة الحياة، والوعي المتشـكل من خلال التجربة والمعاناة.

وليس تحيزاً أن جعلت جوخة الحارثي من نماذجها النسائية عنـصراً فـعالاً في سـيرورة التحولات، لأن أوضاع المـرأة في مجتمعاتنا العربية الذكورية، تدفع إلى التمرد وبـلورة وعـي منـاصـر للتحرر والمساواة. وهذه رؤية استطاعت جوخة أن تصوغها في سـرد ولغة ملائميـن، يضفيان على روايتها مزايا عديدة». وفي المُقابل، فإن من نكد التعامل الأدبي، شُبهات الجوائز العربية، خاصة البوكر العربية، ونرجسية المشرق العربي (أقصد مصر ولبنان وبلاد الشام) تُجاه الجناحين شرقا وغربا، وعدم إيمانه المرَضي بالآخر المُجانس. وبغض النظر عن مدى استحقاق جوخة الحارثي لهذا الاعتراف الغربي والنكران العربي ـ ولنا مآب لذلك – فإن هذا الأمر طرح على الساحة الثقافية جملة من القضايا الحارقة:

القضية الأولى تُمثلها جُملة من المثقفين، ترى أن الأدب العربي منبوذ من الغرب، وإذا صادف أن فوزوا عربيا بجائزة فإن مرد ذلك إلى الحسابات السياسية أو التبيدق الإبداعي أو الرشاوى الثقافية. وهو مُعتَقد المهزومين المأزومين الباحثين عن إرضاء الذات وعدم الاعتراف بوهنهم الإبداعي في ظل الإبداع الكوني، فالرواية العربية المشرقية (بمفهوم المشرق ذاته) ـ على سبيل المثال- التي تصدرت المشهد العربي تعيش حال احتضار بسبب استنزاف موروثها الحضاري والعيني المتكرر، وعدم الاجتهاد في البحث عن مصادر تمثيل جديدة، في المقابل فإن الرواية في الخليج العربي وفي المغرب العربي، تبحث عن أشكال جديدة للتحقق.

القضية الثانية عاينتها في مراحل فوز جوخة الحارثي بالجائزة من القائمة الطويلة إلى القائمة القصيرة إلى الفوز النهائي، وهي قضية عميقة في تكوين الذهنية العربية الرسمية والعالمة والمثقفة والشعبية. فلم يُهتم بالترشح للقائمة الطويلة، وكان الاهتمام البسيط والتجاري والبحث عن مواد صحافية في الترشح للجائزة القصيرة، وكان التباهي والتناصر والتحاقد ساعة الفوز. في حين أن الحركية الثقافية الغربية بدأت الاهتمام بـ»سيدات القمر» من أول ظهورها في القائمة الطويلة. ماذا نفهم من ذلك؟

نفهم أننا أمة لا تُقدر مبدعيها، ولا تُساندهم في تحقيق العالمية، بل أكاد أجزم أننا ـ بسبب أمراض فينا- لا نريد أن يفوز عربي. المثقفون العرب لم يطلع أغلبهم على الرواية، وبعضهم حاكمَها وكاتبتَها بدون قراءة الرواية، نتبين ذلك في الحديث الساذج عن الحجاب وعدم قدرة المتحجبة على الإبداع، وإثارة مواضيع الجوائز الغربية والتشكيك في مصداقيتها واستعماريتها، وحساباتها السياسية والسياحية (ما كتبه رضا الأعرجي هو نموذج على ذلك).

القضية الثالثة: الاعتقاد الخاطئ بأن الروائيين العرب لهم مرجعية مشتركة وواحدة، وتبعا لذلك أيضا أن الخليج واحدٌ وهو أمرٌ مجانبٌ للصواب في ظني، فالعرب أمة تمتح من حضارات مختلفة، الفرعونية والبربرية والسومرية والبابلية والعبرانية والعربية والفارسية. وهو الأمر ذاته في اختلاف حضارات دول الخليج المشتركة في الكليات المتباينة في الفروع والجزئيات، وهو تباينٌ يُحدث فوارق على مستوى البنية الذهنية والأرضية الثقافية والوعي الجمعي، بل إن فوارق تحصل بين شمال الدولة الواحدة وجنوبها. وهذا الأمر شكل خللا في التفاعل القرائي النقدي العربي، الذي يتصور ببلاهة مقصودة أن الخليج واحد ويختزله في النفط والثراء وبلادة الذهن.

إن فوز جُوخة الحارثي الذي تنبأ به بطريقة غير مباشرة محمد برادة منذ سنة 2012، ليس فوزا للرواية العربية، التي بدأت تُنهكُ من أثر أباطرتها الذين احتكروا الفعل الإبداعي، ومن أثر جُوع دور النشر وتكالبهم على البيع، ومن أثر احتكار مواقع النقد المنتشرة، بل هي رواية عُمانية إنسانية تمكنت فيها صاحبتها من هضم التاريخ وامتصاص الواقع بقضاياه، وصاغت كل ذلك في شكل روائي جاذب، مُرغب في القراءة إذ أحكمت بناء الشخصيات الكُثر المختلفة ووجوههم المتباينة خصالهم وأعمالهم، وأطلقت الشخصية تسير حرة وتتكلم بما يُناسب مقامها، نفيا لظاهرة يعسر على أغلب الروائيين تجنبها وهي هيمنة الذات الكاتبة.

شخصيات «سيدات القمر» جعلت الرواية حية ناطقة، تنضح تطابقا بين الشخصية في وجودها ومقام تكونها وفِعالها وأقوالها، فظريفة الشخصية المُعبرة عن قضية العبيد في الرواية، اتكأت عليها الكاتبة لتُظهر مرحلة من تعايش السادة والعبيد، استكانةً وقناعة، أو رفضا وثورةً. وشخصية نجية القمر لا تُشبه أحدا في الفضاء الروائي، هي كونٌ حكائي بذاته. الشخصيات في الرواية هي مخازن حكايات ومواقف وأحداث، لا شبه بينها، وكل شخصية تُسبَر نفسيا وتَظهر فعلا، وكذا الأمر يسير في خُطاطة مضبوطة لتناسل الشخصيات التي تفتح دوائر لتوليد الأحداث. وبغض النظر عن نقدنا للرواية وهو أمرٌ مشروعٌ ومُحبب للنفوس، فإن فوز جوخة أوقع الذهنية العربية شبه المُثقفة في مآزق:

المأزق الأول خاص بعقدة التفوق مكانيا أو ذاتيا، وهو أمرٌ يؤكد أننا مختلفون، ووحدتنا الجامعة وهمية، فالمنظور الشرقي يرى أن التمكن والإبداع صعب أن يخرج عن دوائره، وإن خرج فهنالك خلل ما، ما حدا بالبعض (أقصد دار الفارابي) في فِعلة سافرة، سخيفة، أن يقطع الصورة الجامعة بين المترجمة والكاتبة، وأن ينشر صورة المترجمة فقط ويُبارك لها الجائزة، في إعراض بين عن ذكر صاحبة العمل.

المأزق الثاني: ولن أطلق كلاما على عواهنه، بل سأحدد بالضبط المسألة، وهي تخص البوكر العربية، التي لم تلتفت للرواية وهي صادرة من 2010، وهي جائزة سليلة البوكر الكبرى الإنكليزية، فكيــــف يتـــم لـ»سيدات القمر» الإقرار من الأصل بالعالمية ولا يُعترَف (من الفرع) بها عربيا. وقد يَعْلق الأمر بالترجمة الإنكليزية، وفعلا إن الترجمة قد ساهمت بشكل جيد في تحقيق الفوز، ولكن ماذا فعلت المُترجمة؟ هل كتبت رواية جديدة؟ أعتقد أن المترجمة في نهاية الأمر هي «خائنة خوانة»، إذ من العسير أن تنقل العمل كما أثره في الأصل، ولكن الترجمة كانت جيدة لنص جيد، ولا يُمكن علميا وعمليا أن تكون ترجمة جيدة تُحقق العالمية لنص رديء؟ والعكس صحيح.

المأزق الثالث: هو مأزق محلي ذو وجهين، مأزق فني وآخر نفسي جمعي، أما الفني فيخص ضرورة تقبل العمل على أنه تخييل، فقد أحكمت الكاتبة تسخير مادة التاريخ الشعبي الشفوي لتُحول هذه المنقولات الشفوية إلى حكاية كبرى، مشدودة عناصرها، تصدر عن واقعٍ ولكنها ليست الواقع، دوائر حدثية كبرى في تاريخ عمان الحديث، وصلت بينها جوخة الحارثي، في بناء شجرة نسب قائمة على التوالد لا على التكرار، ابتداء من جلوس عبد الله بن التاجر سليمان في مقعد الطائرة وإرسال الذاكرة استرجاعا لتذكر الحوادث، ووصولا إلى الدخول في عوالم الشخصيات المُعقدة المترابطة. أما المأزق النفسي فيخص بعض المثقفين العمانيين الذين دخلوا في جدل «المركز والهامش» دفاعا عن أحقية الفوز، وردا على خطابات متهافتة توجهت للرواية وصاحبتها، وهو أمر غير محمود في ظني، أن نُظهر أننا مُنكرون من الآخر القريب، أو أنْ نُظهر الشعور بالضيم والظلم..

وختاما، يبقى القارئ العربي في مختلف مستوياته، قارئا ساذجا عاطفيا جدا، يتفاعل مؤقتا مع الحدث ثم ينصرف إلى غيره، هذا الاستحقاق الروائي أدخل الكاتبة وسلطنة عمان والخليج والعرب إلى التاريخ، فستبقى الكاتبة أول عربي يفوز بهذه الجائزة بإجماع لجنة التحكيم، وإن كره الكارهون، وتبقى الرواية عملا تخييليا تُبدعه سافرة ومُحجبة، فتاة وعجوز، كافر ومؤمن، يحتاج فقط إلى التفاعل النقدي والقراءة الذاتية.