يعد الحديث عن شكر المخالف من القضايا القديمة المتجددة، وذلك لاتساع رقعة المخالفين، ذلك أن المخالف في الصدر الأول كان هو غير المسلم، أما اليوم فقد تنوع تصنيف المخالفين، فهناك المخالف في الدين، والمخالف في المذهب الاعتقادي، والمخالف في المذهب الفقهي، والمخالف في المذهب الفكري.

والأصل أن شكر المخالف لما أسداه من خير يتوقف حسب نوعه، ويجمع ذلك كله – ليس حسب الاعتقاد أو المذهب أو الفكر- وإنما حسب المخالف المقاتل المعتدي، والمخالف المسالم.

النوع الأول: شكر المخالف المعتدي

والأصل فيه أنه لا ينبغي شكر المخالف المعتدي، ولا الثناء عليه؛ لأن الاعتداء بقتل المظلومين والاعتداء على ممتلكاتهم مما ينافي شكر هؤلاء المعتدين، ولو كانوا مسلمين، ذلك لأنه نوع من البغي والاعتداء يجب رده، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9]

جاء في تفسير القرآن من الجامع لابن وهب (1/ 60): ” وذلك رجلان يقتتلان من أهل الإسلام، أو النفر والنفر، أو القبيلة والقبيلة، فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحق الذي أنزل الله في كتابه، إما القصاص والقود، وإما الغير، وإما العفو، فإن بغت إحداهما بعد ذلك على الأخرى كان المسلمون مع المظلوم على الظالم، حتى تفيء إلى حكم الله وترضى به”.

فالمعتدي بقتل المسلمين لا يستحق ثناء ولا شكرا، لأن في إسدائه بعض الخير لبعض المسلمين وقتله لفئات أخرى، مقاصد فاسدة غير معتبرة، ولأن الثناء عليه فيه رضا على قتله المسلمين من باب التبع، ومثل هذا لا يجوز، ولا فرق في هذا بين المسلم وغير المسلم.

النوع الثاني: الثناء على المخالف غير المعتدي

والأصل فيه أنه يجوز ثناء المخالف غير المعتدي، أي المخالف المسالم، سواء كان مسلما أو غير مسلم.

والأدلة على ذلك ما يلي:

شكر المخالف في القرآن والسنة

وشكر المخالف في الدين والعقيدة والمذهب والفكر واجب شرعي، دعت إليه النصوص الشرعية، وهو من أسمى المرتكزات الفكرية في العلاقات مع الآخر في الإسلام،  فإن من مبادئ الإسلام السامية الاعتراف بالجميل لأهله، والشكر لهم عليه، فهذا حقهم، ولو كانوا كافرين،  أو مخالفين

والأدلة على ذلك:

أن ظاهر النصوص القرآنية تحث على شكر من أسدى إلينا معروفا، من ذلك قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فيه وجوب الشكر لله أولا، ثم الشكر للوالدين، والشكر لله معلومة أسبابه، والشكر للوالدين يكون لما أسديا للإنسان من معروف، والشكر للوالدين مطلق، سواء كان الوالدان مسلمين أم كافرين؛ لأن شكرهما ليس بسبب إسلامهما، بل بسبب ما قاما به تجاه الولد.

ومن ذلك ما ورد عند أبي داود والترمذي عن جابر- رضي الله عنه- قال:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به  ، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره» ) .

وهو نص في وجوب شكر من أسدى إلينا معروفا ومكافأته، وتخصيص بالمسلم دون غيره يحتاج إلى دليل يخصصه ولا دليل.

وعندي أبي داود والترمذي وأحمد في المسند وللبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يشكر الله من لا يشكر النّاس»، وهو نص في شكر من أسدى معروفا من الناس، وكلمة الناس معلوم أنها تشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم.

مواقف عملية في شكر المخالف

وهناك مواقف عملية من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على شكر المخالف، ولا ينافي هذا اختلاف العقيدة أو الفكر أو غيرهما.

ومن ذلك:

الثناء على حلف الفضول

وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته على حلف الفضول الذي تعاهد فيه أهل قريش على نصرة المظلوم، فأخرج أحمد في المسند قوله صلى الله عليه وسلم: ” لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم.

ورغم عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد أثنى على حلفهم، بل أبدى استعداده للمشاركة في مثله بعد نبوته.

وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب :

              إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا          ألا يقيم ببطن مكة ظالـــم
              أمر عليه تعاقــدوا وتواثقــوا          فالجار والمُعترّ فيهم سالم

الثناء على مطعم بن عدي

أن مطعم بن عدي، وهو أحد المشركين الذي ماتوا على الشكر أجار النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من رحلة الطائف، فشكر الرسول صلى الله عليه وسلم له ذلك يوم بدر ولم ينسها له، كما ورد عندي البخاري وأبي داود عن جبير بن مطعم – رضي الله عنه – قال: «لما أسر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من أسر يوم بدر من المشركين قال: لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له» .

الثناء على النجاشي قبل أن يسلم

ومن الأدلة على جواز شكر الكافر لصنيعه الخير والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على النجاشي لعدله قبل أن يسلم، وأمر الصحابة إلى الهجرة إليه، ولا متعلق لهذا بعقيدته آنذاك.

ثناء النبي على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب

فقد أخرج البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم:” فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني فصدقني. وفي رواية:” ووعدني فأوفى لي”.

وثناء النبي صلى الله عليه وسلم على العاص بن الربيع ليس لكونه أسلم – رغم أنه حارب النبي صلى الله عليه وسلم وتأخر إسلامه-، بل لأخلاقه وحسن تعامله مع ابنته زينب رضي الله عنها.

ثناء عمرو بن العاص على الروم

فقد ثبت أن عمرو بن العاص – رضي الله عنه- أثنى على الروم، رغم جهاد المسلمين لهم وبطلان عقيدتهم، فقد روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال عن الروم: إن فيهم لخصالا أربعا؛

1- إنهم لأسرع الناس كرة بعد فرة.

2-  وإنهم لخير الناس لمسكين وفقير وضعيف.

3-  وإنهم لأحلم الناس عند فتنة.

4-  والرابعة حسنة جميلة: وإنهم لأمنع الناس من ظلم الملوك.

 قال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط الصحيح .

فتاوى العلماء

وقد أفتى عدد من فقهاء المسلمين أن الثناء على المخالف لا يعد من المحبة التي ورد النهي عنها، من ذلك:

سئل الشيخ ابن باز – رحمه الله-:

بعض الناس يُثني على بعض الكفار، هل يكون هذا من المحبَّة؟

فأجاب: لا، ما هو بلازم المحبة، قد يُثني عليه لصدقه، أو لأنَّه أكرم المسلمين، كما أثنى النبيُّ على النَّجاشي، ثم هدى الله النجاشي وأسلم.

وسئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله-: هل يجوز أن أطلق بعض الألفاظ لمن أسدى إليَّ معروفاً من الكفار كشكراً أو جزيت خيراً

فأجاب:

نعم هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) فإذا أحسن إليك أحد من غير المسلمين فكافئه فإن هذا من خلق الإسلام، وربما يكون في ذلك تأليف لقلبه فيحب المسلمين فيسلم. ( اللقاء الشهري، رقم: 30).

ضوابط الشكر

1- أن يقتصر على المواقف التي تستحق الشكر، والتي قاموا بها من إسداء نصح، أو مشاركة في فعل خير أو معروف.

2-  ألا يكون الشكر متعلقا بالاختلاف العقدي أو الفكري الذي هو ليس محل تقارب، كشكر عقيدتهم أو مذهبهم أو فكرهم الذي يخالف ما عليه جماهير الإسلام.

3-  ألا يترتب على الشكر مضرة أكبر من المصلحة.

4-  أن يكون الشكر على الموقف لا لذات المخالف، وقد قرر الفقهاء في قواعدهم: ” الحكم على الأفعال لا على الذوات”، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة عن الشيطان، كما في حديث البخاري: ” أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: قلت: لا، قال: ذاك شيطان.

5-  أن الشكر لا يكون للمعتدي على المسلمين والناس في دمائهم وأموالهم.

ولعل هذا التأصيل المختصر يكشف لنا عن قراءة شكر المخالف سواء في العقيدة أو المذهب أو الفكر، ويمكن إسقاطه على أي واقعة كانت بعيدا عن تسميتها، فإن التأثر بالتسمية مما لا يخفى على أحد.