لقيته مرة جالساً في المسجد حزيناً كئيباً ، فوقفت على رأسه وقلت له مداعباً :
قال رجلٌ لآخر : هل زوجتك من النوع النكد ؟!.
فرد عليه صاحبه : وهل هناك نوعٌ آخرٌ؟!
فنظر إليّ (ياسر) نظرة ملؤها الحزن ، ثم أشاح بوجهه، وأشار إليّ بيده : اجلس .. فجلست بجواره ، مستغرباً ! وقلت :
– مالك ؟!
فاستدار ، وزفر زفرة مخيفة ، ظننت أنها خرجت معها بنار !، ثم قال :
– أنا منذ سنوات أعاني من عدم التفاهم بيني وبين زوجتي ، وهي كذلك !
– هل تمزح ؟!
– لا والله ، لا أقول إلا الصحيح ..
– أكمل !
– طلقتها البارحة !.
فاندهشتُ ! ، وقلت :
– هكذا بكل بساطة ؟! أنسيت العشرة ؟! ألا تتذكر لها أي حسنة ؟ وبناتك ؟ ألم تفكر فيهن ؟ ..
– يا أخي لا تعجل .. امرأتي والله إنسانة فاضلة نبيلة .. وهي …
فقاطعته ..
– وتطلقها رغم فضلها ونبلها ؟ ما هذا الكلام ؟!
– يا موسى ! أنت الذي بدأت الكلام معي ، فإمّا أن تستمع لي ، ولا أريد منك حلاً، أو تُغيّر الموضوع .
– آسف ، أكمل !.
– .. ولأنها نبيلة وفاضلة فقد جلستُ معها البارحة جلسة مصارحة ، بناء على رغبتها، ودار بيننا حوار طويل ، ثم قالت لي بالحرف الواحد :( أنا أحترمك جداً ، لكني لا أشعر تجاهك بحبٍّ ، ولا أستطيع الاستمرار معك في هذه المعاناة ، وأنت رجلٌ طيبٌ ، ولا أريدُ أن أظلمك أو أظلم نفسي ).
فقلت لها :
– فما الحل ؟!
– أن تطلقني وأنت عني راضٍ !..ونتفق على كيفية زيارتك للبنات ، هذا إن سمحت لي أن أقوم برعايتهن .. والأمر لك .
فدمعت عيناي ، وأكبرتها جداً ، وقد كنت أدعو الله تعالى أن ينير لنا الطريق الصحيح ..
ثم قلت لها :
– أسأل الله تعالى أن يعوضك خيراً مني ..
فقالت :
– وأنا أشهد لله أنك طيب .. وأسأل الله أن يعوضك خيراً مني ..
ثم ..طلقتها .. وخرجت من البيت باكياً ، أدور في شوارع الخبر – مدينة سعودية –  كالمجنون ، فما هانت عليّ الذكريات الجميلة ، وما هانت عليّ هي ، ولا بناتي .. لكني أمام أمرين أحلاهما مرٌّ.
وبعد قرابة ساعتين، رجعت للبيت وإذا بها قد حزمت (حقائبها) وجلست تنتظرني..
فأعطيتها مبلغاً من المال ، ثم أوصلتها إلى بيت أهلها ، ومعها بناتي الصغار.. فودعتني وهي تبكي ..
والآن أشعر بفراغ كبير جداً في حياتي ، ولستُ أثق في أحدٍ أشكو له حالي إلاّ الله.
فحزنتُ لكلامه جداً ..
وقلت له : أقسم بالله سيعوضك الله خيراً ، فأنت رجلٌ شهمٌ ، وعظيم الأخلاق.
وفي الحقيقة فقد ذرفت عيناي ولم أستطع أن أكمل جلوسي معه ، فاستأذنته وقمتُ، وأنا أدعو له كثيراً ..
كنتُ أراه في المسجد منهمكاً في الدعاء ، ولم أكن – حينها – معروفاً كثيراً بين المصلين ، ولم أكن إماماً ، بل كنت طالب علمٍ صغير – ولم أزل والله – ، فكنت أمكث في المسجد بعد الصلوات أحياناً ..في ( جامع عمر بن عبد العزيز  بالخبر)..
كنت أشاهده دائماً على هذا الحال ، منفرداً بنفسه .
ثم فرقت الأيام بيننا ..
وبعد سنوات ، رأيته صدفة ، يركب سيارته في إحدى شوارع (الخبر) ،فما كدتُ أصدق عينيّ.. فصحت به من بعيد : ياسر !..
فالتفت .. فلما رآني أشرق وجهه .. وابتسم ابتسامة حبيبة .. ووقف سيارته .. ثم أقبل نحوي مسرعاً .. فلما وصل .. صافحني بحرارة .. وضمّني ضمةً أحسست بأضلاعي تطقطق منها ! وكان طويلاً جسيماً .. وأنا .. لن أقول لكم !.
قلت : ماذا صنع الله بك بعدي ؟!
قال : هل عندك وقتٌ ؟
قلت : نعم .
فركبتُ معه.. وانطلق .. ثم انطلق في الحديث !
قال: أتذكر تلك القصة ؟!
قلت : لقد حُفِرت في قلبي وعقلي !
قال : فإني كنتُ يوماً في المسجد ، وإذ برجلٍ كبير السن ، وقور ، ذي لحية بيضاء، يرمقني من بعيد ، ثم اقترب مني فإذا هو ( أبو فلان) .
قمتُ إليه ، وصافحته، فقال لي :
اجلس !
فجلس وجلستُ معه !
قال : يابني ..منذ فترة طويلة وأنا أراقبك .. وأراك تطيل الجلوس بعد الصلاة في المسجد لوحدك ! هل تعاني من ديون ؟!
فضحكتُ .. وقلت : لا يا عم !..
لكني أمرُّ بظروف عائلية ، وإن شاء الله تعالى فرّجها !
قال : هي سرٌّ؟!
قلت: عنك أنت ؟ لا ..ثم أخبرته بالقصة كلها .. فتأثر جداً ..
ثم قال لي : فلماذا لم تتزوج حتى الآن ؟!
قلت : على يدك !
فنظر إليّ وقال :
هل أنت جادٌ ؟!
قلت : نعم !
فأخذ بيدي وأقامني بقوة ، وقال : قم معي ! فقمت معه كالمسحور !
فمشينا حتى أدخلني بيته ، وتركني في المجلس ، ودخل على أهله ، وغاب عني قرابة ربع ساعة كأنها أربع ساعات ! .. ثم عاد إليّ وأنا غارق في العرق !
قال لي : ( شوف يا ولدي .. بعد شوي بتدخل علينا البنت بالقهوة .. أعجبتك فهي زوجتك .. وإلاّ فالحمد لله ما صار شي !) ..
فغصصتُ بريقي ..ونظرت في ثوبي .. وعدّلتُ (شماغي ) و(عقالي ) ! وتسمّرتُ مكاني !
فإذا بقطعة قمر تدخل علينا من الباب ، لها ابتسامة خجولة ، نظرها إلى الأرض..
فلم أرَ بدراً ضاحكاً قبل وجهها :::: ولم ترَ قبــــلي ميّتاً يتكلمُ !
دخلتْ تحملُ شيئاً بين يديها ، فوضعتْه بيني وبيني أبيها ، ثم انصرفتْ!
اكتشفتُ بعد أن أفقتُ من ذهولي أنّ هذا الشيء هو : القهوة !..
مسحتُ جبيني ..والتفتُّ لأبيها وقلت مداعباً :
– الله يهديك يا عمّ .. أحرجتْ البنت ؟!
فضحك وقال : ( البنت أو أنت؟!) ..
ثم قال : هاه .. ما رأيك ؟!
قلت : موافق !
فضحك .. وقال : ( جيب لي 5000 ريال مهرها .. ومأذون شرعي .. وحياك الله بكرة .. خذ زوجتك والله يبارك لك)!
قلت : يا عمي .. 5000 آلاف قليلة .. وأنا أيضاً أحتاج إلى أن أجهز نفسي .. وأشتري للبنت حاجاتها ..و(بعدين) …
قال : .. ما يحتاج .. أنت عندك بيت ، وكل شيء ستجده جاهزاً غداً عندي إن شاء الله .. أنت تستاهل كل خير ..
قال (ياسر ):
فتزوجتها .. والآن عندي منها ولدان .. وبناتي يعيشون معنا .. ولا أزال على ذكرى طيبة بزوجتي الأولى .. وأدعو لها دائماً..
قلت : هل تذكر أني قلت لك : إن الله سيعوضك خيراً ؛ لأنك شهمٌ ؟!
لم تخن العشرة ، ولم تجرجر زوجتك وأهلها في المحاكم وأقسام الشرطة ، ولم تفترِ عليها وعليهم الكذب ، وتتحدث في كل مجلس ، ولم تبتزها حتى تحصل على مالٍ مقابل طلاقها منك … أنت والله شهمٌ ..ورجلٌ بمعنى الكلمة ..
قال :أتوقع أنك ستفضحني في دروسك ، ومقالاتك .. لكن ( تكفى .. لا تذكر اسمي الصريح )!..
قلت : اطمئن !