مكة المكرمة أجمل بقاع الأرض وأطهرها ، وخير البلدان وأشرفها، هي حياة القلوب ومأرز الإيمان، وُلد فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأشرق من رباها نور الوحي فبدّد الظلام ، هي أول ما خلق الله من الأرض، وفيها أول بيت للناس مباركاً وهدىً للعالمين، بها تطوف القلوب إلى الله شوقاً، وتسعى الأنفس بين الصفا والمروة عشقاً، لا يعضد شجرها ولا يقتل طيرها ولا يفلح عدوها. هي مكة المكرمة وبكة والمقدسة والحاطمة للأعداء والبيت العتيق والبلد الأمين وأم القرى.

وقد اختار الله سبحانه وتعالى الحرم المكي لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، وجعل فيه العديد من الشواهد الحسية الدالة على سر إعجازه الإلهي ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ …﴾ [آل عمران: 97]،‏ تدعيما لما أنزل في محكم كتابه من أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس‏ ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96]، بمعنى أن أحداً من الناس لم يضعه في الأرض‏,‏ وإنما وضعته الملائكة تهيئة لمقدم أبينا آدم ـ عليه السلام ـ‏,‏ ولذا سمي بالبيت العتيق‏, وهذا‏ وتأكيد لما نطق به النبي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن أرض مكة المكرمة وحرمها الشريف هي أقدم بقاع اليابسة على الإطلاق‏,‏ وأن منها دحيت الأرض‏‏ (بمعنى مُدَّت بقية اليابسة).

ومن الشواهد الحسية التي تدل على إعجاز الله في الحرم المكي:

1 – توسط مكة المكرمة لليابسة:

الأرض هي مركز السماوات السبع بنص الآية الكريمة التي يقول فيها الله تعالى : ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾ [الرحمن: 33]‏. وذلك لأن قطر أي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه مروراً بمركزه وأقطار السماوات على ضخامتها تنطبق على أقطار الأرض على ضآلتها النسبية بحسب نص الآية الكريمة، فلابد أن تكون الآية هي مركز الكون. ويدعم هذا الاستنتاج ورود الإشارة بذكر السماوات والأرض وما بينهما في عشرين آية قرآنية صريحة ومقابلة السماوات بالأرض في عشرات الآيات القرآنية الأخرى.

ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت المعمور بأنه في السماوات السابعة على جبال الكعبة تماماً حتى لو خرّ لخرّ فوقها، كل هذه النصوص تؤكد مركزية الأرض للسماوات السبع، فالحرم المكي مركز بين السماوات السبع والأرضين السبع كما وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

2 – انتفاء الانحراف المغناطيسي عند خط مكة المكرمة:

إن الأماكن التي تشترك مع مكة المكرمة في نفس خط الطول ينطبق فيها الشمال المغناطيسي الذي تحدده الإبرة الممغنطة في البوصلة مع الشمال الحقيقي الذي يحدده النجم القطبي، ومعنى ذلك أنه لا يوجد أي قدر من الإنحراف المغناطيسي على خط طول مكة المكرمة، بينما يوجد عند جميع خطوط الطول الأخرى.

3 – ضبط اتجاه أضلاع الكعبة المشرفة:

الكعبة المشرفة مبنية بأركانها الأربعة في الاتجاهات الأربعة الأصلية تماماً، فركنها الشامي في اتجاه الشمال الحقيقي، ويقابله في اتجاه الجنوب الحقيقي تماماً الركن اليماني وركن الحجر الأسعد يواجه الشرق الحقيقي تماماً ويقابله الركن المصري في اتجاه الغرب الحقيقي تماماً. وتحديد تلك الاتجاهات بهذه الدقة في زمن موغل في التاريخ كالذي بنيت فيه الكعبة المشرفة ينفي إمكانية كونه عملاً بشرياً.

4 – الحجر الأسود من أحجار السماء:

روى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الحجر الأسود نزل به ملك من السماء”.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم”.

كذلك أخرج كل من الترمذي وأحمد والحاكم وابن حيان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة” .

وحينما قرأ المستشرقون هذه الأحاديث النبوية ظنوا الحجر الأسود قطعة من البازلت الذي جرفته السيول من الحرات المجاورة وألقت به إلى منخفض مكة المكرمة ومن أجل إثبات ذلك استأجرت الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية ضابطاً بريطانياً باسم ريتشارد فرانسيس بيرتون وجاء إلى الحجاز في هيئة حاج أفغاني وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي “1269هـ / 1853م” بهدف سرقة جزء من الحجر الأسود والفرار به إلى بريطانيا وبالفعل تم له ذلك وبدراسة العينة المسروقة ثبت أنها من أحجار السماء لأنها تشبه أحجار النيازك، وإن تميزت بتركيب كيميائي ومعدني خاص وكان هذا الاكتشاف سبباً في إسلامه وقد سجل قصته في كتاب من جزءين بعنوان : رحلة إلى مكة وتوفي بيرتون في سنة 1980م / 1308هـ.

5 – مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحمل طبعة قدمية:

إن كلمة المقام ـ بفتح الميم الأولى وضمها ـ تأتي بمعنى “الإقامة” من الفعل، ” أقام”، “يقيم”، “إقامة”، و”مقاماً” ومن هنا أخذ التعبير القرآني “مقام إبراهيم” على أنه الحرم المكي بكل حدوده، ولكن من مدلول الكلمة أيضاً “موضع القيام ” من الفعل “قام” “يقوم” “مقاماً”، ولذلك فهم تعبير “مقام إبراهيم” بالصخرة التي “قام” عليها وهو يرفع القواعد من البيت، وبهذا المفهوم فإن هذه الصخرة تحمل آية بينة وهي أنه على الرغم من صلادتها “صلابتها” الشديدة فإنها تحمل طبعة غائرة لقدمي أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ولين هذه الصخرة الصلدة إلى الحد الذي يمكنها من حمل طبعة قدمي هذا النبي الكريم معجزة بكل المقاييس العلمية يقف العلم عاجزاً أمام إمكانية تفسيرها، لأن المعجزات خوارق للسنن والقوانين، ولذلك لا يمكن للعلم المكتسب أن يفسرها، وهي آية محسوسة لكل ذي بصيرة.

6 – بئر زمزم آية من آيات الحرم المكي:

إن تدفق الماء من بئر زمزم على مدى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، من قلب صخور نارية، أو متحولة شديدة التبلور هو أمر لافت للنظر، على الرغم من طمرها وحفرها لعدة مرات، ولم يعرف مصدر هذا الماء المتدفق إلى البئر إلا بعد حفر الأنفاق حول مكة المكرمة، حين أدرك العاملون في حفر تلك الأنفاق أن الماء يتدفق من تشققات شعرية دقيقة تمتد لمسافات بعيدة خارج حدود مكة المكرمة وفي جميع الاتجاهات من حولها وهذه الملاحظة تؤكد وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذه البئر المباركة بأنها نتجت عن طرقة شديدة وصفها بقوله الشريف: “هي هزمة جبريل وسقيا الله لإسماعيل“، لأن الهزمة في اللغة هي الطرقة الشديدة.

وبئر زمزم هي إحدى الآيات المادية الملموسة الدالة على كرامة المكان ويصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ماءها بقوله: “خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام طعم وشفاء سقم”، وقوله صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شرب له”.

7 – ” ومن دخله كان آمناً”:

ذكر ابن كثير في تفسيره ما نصه:” ومن دخله كان آمناً” يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغير: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج، وعن ابن عباس قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوي ولا يطعم، ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه. قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ ﴾ [العنكبوت: 67]‏. وقال تعالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3-4]‏.

وحتى أنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره في أوكاره، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:” لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا”.

وقال صلى الله عليه وسلم: “إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام يحرمه الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباسي: يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الأذخر.

وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة “، وعن عبد الله بن الحمراء الزهري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول: “والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت”.

وقد لاحظ المراقبون أن الحيوانات الضاربة لا تصطرع في الحرم المكي، ولا يؤذي بعضها بعضنا، بل تخالط من الحيوانات ما تعودت على افتراسه خارج الحرم المكي ولا تتعرض له فيه أبداً، كما لاحظ المراقبون أن الطيور عادة لا تعلو الكعبة المشرفة، بل تنحرف عنها كلما طارت في اتجاهها وكأنها هي الأخرى في طواف حولها ويروي لنا التاريخ أن كل جبار قصد الحرم المكي بسوء أهلكه الله، ولم يمكنه من ذلك، كما حدث مع أصحاب الفيل.

وربنا ـ تبارك وتعالى ـ يقرر حمايته لبيته العتيق بقوله عز من قائل: ﴿ أَوَلَمْ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج:25]‏. وتحقيقاً لهذا الوعد الإلهي تُعجّل العقوبة لمن انتهك حرمة الحرم المكي، لذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “الدجال يطوي الأرض كلها إلا مكة والمدينة”.

وتقدر مساحة الحرم المكي بحوالي 600 كلم مربعاً على هيئة سلسلة من الأودية والمنخفضات تمتد من مكة المكرمة إلى ساحة عرفات شرقاً مروراً بكل من وادي منى ووادي المزدلفة، ولهذا الحرم حدود حددها ربنا ـ تبارك وتعالى لأبينا آدم عليه السلام وحملها جبريل عليه السلام إلى أبي الأنبياء إبراهيم ـ على نبينا وعليه من الله السلام ـ وقد نصبت على هذه الحدود أعلام من جهات خمس تعتبر المداخل الرئيسية للحرم المكي، وهذه الأعلام على هيئة أحجار مرتفعة منصوبة على جانبي كل طريق من الطرق المؤدية إلى منطقة الحرم المكي.

إن هذه الشواهد الدالة على عظمة الله وسر إعجازه تبرهن وتؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،‏ وحفظه بلغة وحيه ـ اللغة العربية ـ على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية دون إضافة أو حذف،‏ وتعهد الله تعالى بهذا الحفظ تعهداً مطلقا إلى ما شاء الله، حتى يبقى القرآن الكريم شاهداً على الخلق أجمعين إلى يوم الدين بأنه كلام رب العالمين.


المراجع

1 – علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت، 2013م، ص 101: 105.

2  – البخاري، صحيح البخاري، دار الفكر، دمشق، ط1، 1991م. الحديث رقم 1636، الحديث رقم 1737، الحديث رقم 3017 .

3 – الترمذي، سنن الترمذي، دار الفكر، بيروت، 1398ه، رقم 877، رقم 879 ، رقم 3925 .

4 – زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مكتبه الشروق الدولية، القاهرة، 2004م، ص: 589، 591، 592 ، 593، 595.

5 – ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة ، بومباي، الدار السلفية، ط1، 1403ه ، الحديث رقم 37491.

6 – ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1420ه – 1999م.

7 – المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، بيروت.لبنان، ط5، 1401هـ -1981م ، الحديث رقم 34731، الحديث رقم 34784، الحديث رقم 34779

8 – مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1972م، الحديث رقم 445.