جاء إنشاء المجامع العلمية ومعاهد المخطوطات في القرن الماضي ليحقق فائدتين، أولهما التعريف بالتراث المخطوط وإرساء القواعد العلمية لعلم التحقيق وحماية التراث من عبث الناشرين التجاريين، وثانيهما تدريب وتخريج أجيال من الدارسين للتراث وفق أسس علمية منضبطة، ومن هؤلاء الدارسين من استطاع أن يخدم التراث كما لم يخدمه أحد من المستشرقين كالدكتور صلاح الدين المنجد (1920-2010) أحد شوامخ المحققين العرب.

مقتطفات من السيرة الذاتية

ولد صلاح الدين المنجد في حي القيمرية القديم بدمشق في مطالع العقد الثاني من القرن الماضي، وانتسب إلى أسرة عرفت بالعلم والتدين، كان والده الشيخ عبد الله من حفظة القرآن وأتقن القراءات حتى انتهت إليه رئاسة الإقراء في دمشق وعين شيخا للقراء فيها.

تلقى المنجد تعليمه الأولي في مدرسة البحصة الابتدائية، ثم انتقل إلى مكتب عنبر وهي مدرسة تخرج فيها غالبية المثقفين والعلماء، والتحق بالكلية العلمية الوطنية وخلال مرحلة الطلب تتلمذ يد أعلام زمانه: خليل مردم بك ومحمد بهجة البيطار وطاهر الجزائري ومحمد أحمد دهمان، ثم صار تلميذا إلى الأستاذ محمد كرد علي، ويقص علينا المنجد كيف كان ذلك فيقول أنه استمع إلى محاضرة له وكان يشغل عندئذ منصب رئيس المجمع العلمي فرأى فيها ما بعض يستوجب النقد، وكتب مقالا في ذلك نشره بمجلة الرسالة عام 1940، وطالع الأستاذ كرد علي المقال وأعجب بما ورد فيه فأرسل في طلب الشاب ووجهه إلى الاعتناء بالتراث العربي والاشتغال به وفي تاريخ دمشق العلمي على وجه الخصوص.

فور تخرجه التحق بوزارة المعارف، لكنه كان طموحا فانتسب إلى دار المعلمين ومعهد الحقوق ونال منهما شهادتي الإجازة، وابتعث إلى السوربون لنيل درجة الدكتوراة في القانون الدولي العام[1]، وكان مدخله لدراسة القانون تراثيا فقد حقق ودرس من خلال رسالته مخطوطة نادرة هي (رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة) لأبي الفراء البغوي (ت: 510ه)، وهناك تفتحت عيناه على علوم ومعارف أخرى ذات صلة بالتراث فتابع دروسا في علم المكتبات وعلم الخطوط (الباليوغرافيا)، وعلم التاريخ.

ما إن عاد المنجد من بعثته حتى عين مديرا لمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة (1955-1961) ورغم أنه لم يكن أول مدير له حيث أنشئ المعهد قبل ذلك بسبع سنوات إلا أن فترة رئاسته له كانت أزهى عصوره وأوفرها نشاطا، وحقق له هذا النشاط سمعة طيبة وتسامعت به الهيئات العلمية الدولية فصار عضوا في مجمع اللغة العربية والمجمع العلمي العراقي والمعهد الألماني للآثار ببرلين، وشارك في مؤتمرات دولية عديدة منها كمؤتمرات المستشرقين، وأعير استاذا زائرا إلى جامعة برينستون عام 1959.

غادر المنجد منصبه في معهد المخطوطات وتوجه إلى بيروت التي استقر مقامه بها وتنسم بها أجواء الانفتاح الفكري وأسس (دار الكتاب الجديد) وأخذ ينشر من خلالها إنتاجه الفكري، غير أن الدار لم تلبث أن دمرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فانتقل إلى جدة وعمل بالتدريس والتحقيق، وفي أخريات عمره أصيب بالزهايمر فتوقف عن العمل حتى انتقل إلى جوار ربه عام 2010.

الآثار الفكرية

ترك المنجد تراثا فكريا غنيا يكاد ينوف على مائة وخمسين عملا فكريا بين كتاب وبحث وتأليف وتحقيق وتقديم، وهو إنجاز قل من حققه بين العلماء المحدثين، بدأ المنجد أديبا في (إبليس يغني) أول كتاب له صدر عام 1943، لكن لم يطل مكثه مع الأدب حيث اتجه إلى البحث والتحقيق، وكان آخر بحوثه (منهج نشر التراث في القرن الرابع عشر الهجري) عام 1996، وقد حققت بعض كتبه شهرة واسعة واعتبرت دراسات رائدة في بابها ومنها كتاب (قواعد فهرسة المخطوطات العربية) وكتاب (قواعد تحقيق المخطوطات) الذي صدر بعد عام واحد من صدور كتاب عبد السلام هارون المعنون (تحقيق النصوص ونشرها) وهو أول ما صنف في هذا الباب، ورغم كثرة ما صنف في التحقيق إلا أن كتابي هارون والمنجد يعدان دستور المحققين حتى يومنا هذا، بقطع النظر عما صار بين الرجلين  الذي وصل إلى حد الصدام حيث انتقد المنجد صاحبه بأنه: تطرق في كتابه إلى موضوعات خارجة عن الموضوع مثل “كيف وصلت إلينا الثقافة العربية”، وأنه لم يطلع على الدراسات الأجنبية في هذا المجال، وأنه خلط بين قواعد تحقيق النصوص والعلوم المساعدة[2].

وبصفة عامة يتسم إنتاج المنجد الفكري بميزتين، هما التنوع والموسوعية فقد كتب في موضوعات متعددة ولم يقصر جهده على مجال بعينه، ويمكن توزيع هذا الإنتاج موضوعيا على وجه الإجمال لا الحصر كالتالي:

  • تاريخ دمشق: شُغف المنجد بمدينة دمشق وتاريخها وخططها وعلمائها وآثارها، وتجلى شغفه في إنتاجه المعرفي الغزير حول المدينة والذي أُحصي فبلغ أربعين مؤلفا، افتتحها عام 1945 في كتابه (دمشق القديمة أسوارها وأبراجها وأبوابها) وظل يكتب عنها حتى عام 1986 حين نشر بحث (خطط الشام عند ابن عساكر في تاريخه)[3].
  • المعاجم: ومن أمثلتها معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعجم النساء، الذي جمع فيه ما ورد في المعاجم العربية عنهن، ومعجم المؤرخين الدمشقيين وآثارهم المخطوطة والمطبوعة، ومعجم الخطاطين والنساخين والمصورين والمزوقين في الإسلام، والمعجم الطبوغرافي لمدينة دمشق وغيرها.  
  • دراسات تاريخية: كالحوادث الكبرى في عصر بني أمية، وأعلام التاريخ والجغرافيا عند العرب، والسير الذاتية في التراث العربي.
  • دراسات جغرافية: كالخليج الفارسي أو العربي عند الجغرافيين العرب، دمشق عند الرحالين والجغرافيين العرب، ومملكة مالي عند الرحالين والجغرافيين المسلمين.
  • دراسات عن الخط: ومنها؛ دراسات عن الخط العربي منذ نشأته حتى أواخر العصر الأموي، أشهر الخطاطين في الإسلام، الخط العربي من الناحية الحضارية.
  • تقعيد وفهرسة المخطوطات: قواعد تحقيق المخطوطات العربية، فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأمبروزيانا، فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الكونجرس، قواعد فهرسة المخطوطات العربية، قواعد ضبط النصوص عند الأقدمين.
  • دراسات حول الاستشراق: المنتقى من أعمال المستشرقين، والمستشرقون الألمان: تراجمهم وما أسهموا به في الدراسات العربية.
  • الفكر المعاصر: أعمدة النكبة، أسباب هزيمة حزيران، بلشفة الإسلام.
  • الأعمال المحققة: وهي طيف واسع من المخطوطات في شتى الموضوعات أبرزها: شرح السير الكبير للسرخسي في ستة مجلدات، المجلد الأول من تاريخ دمشق لابن عساكر، أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية، رسالة في أمهات الخلفاء لابن حزم[4].

إسهاماته في خدمة التراث المخطوط

توحي قائمة مؤلفات المنجد أن اهتمامه بالتراث لم ينقطع يوما ولم تصرفه عنه الصوارف، حيث ظل منشغلا به  وبقضاياه طيلة مدة نصف قرن دون كلل، ومنشأ ذلك أنه كان يعده سبيلا لتحقيق النهضة المنشودة، بعد رحيل الاستعمار عن العالم العربي، وكان المنجد كان للتراث نظرة عميقة لا ترقى للتقديس ذلك أنه كان يعتقد أنه ليس شيئا واحد ففيه كما يقول ما هو حي وما هو ميت، والحي منه هو الذي يشتمل على قيم وأفكار حضارية وإنسانية، ولعل هذا ما دعاه إلى التفكير فيما يصلح للنشر من التراث وما لا يصلح[5].

وعلى أي حال تمثلت مظاهر عناية المنجد بالتراث، لاسيما المخطوط منه، في عدة مظاهر، هي:

  • إصداره مجلة معهد المخطوطات العربية عام 1956، وهي أول مجلة عربية تعنى بالمخطوطات والتعريف بها وأماكن وجودها ورصدها، وأثراها طيلة مدة مكوثه بالمعهد بطائفة من البحوث التي تعرف بالمخطوطات والتحقيقات الصادرة حديثا.
  • اهتمامه بإيفاد بعثات من معهد المخطوطات لتصوير أهم المخطوطات العربية القابعة في المكتبات العالمية، وهو ما أكسبه خبرة بمظان وجود المخطوطات، وكان المنجد يسافر بنفسه مع هذه البعثات حيث زار ليننغراد وموسكو وطشقند وسمرقند وطهران وباكستان والهند وتونس والمغرب حتى لقب باسم (سندباد المخطوطات).
  • دراساته وتحقيقاته حول الخط العربي، وكان ذلك هو أحد المفاتيح التي عاونته على تحقيق مخطوطات تنتمي إلى مناطق جغرافية وحقب تاريخية جد متباينة.
  • اسهاماته في إرسال قواعد علم التحقيق والفهرسة حتى يمكن القضاء على الاضطراب في المناهج المتبعة في التحقيق.

استخلاصا مما سبق يمكن القول أن الدكتور صلاح المنجد كان أحد رواد التحقيق الذين أرسوا قواعده وتعهدوها بالتقويم والإضافة ووصلوا بها إلى مرتبة القبول، بعد أن عشنا دهرا عالة على إنتاج المستشرقين في هذا الباب.  


[1] عبد الكريم اليافي، صلاح الدين المنجد الباحث والمحقق في: مقالات ودراسات مهداة إلى صلاح الدين المنجد، لندن: مؤسسة الفرقان، 2002، ص 1-3.

[2] عبد الستار الحلوجي، إسهامات صلاح الدين المنجد في تأصيل علوم المخطوط العربي، في :مقالات ودراسات مهداة إلى صلاح الدين المنجد، ص 55.

[3] فيصل الحفيان، صلاح الدين المنجد فارس لم يترجل يوما، في: الموسم الثقافي الثاني شوامخ المحققين، القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2005، ج 161-162.

[4] عبد الكريم اليافي، صلاح الدين المنجد الباحث والمحقق،  المرجع السابق، ص 10.

[5] فيصل الحفيان، المرجع السابق، ص 166.