(صناعة التفكير اللغوي) كتاب مشترك بين مجموعة من الباحثين، أشرف على تحريره النهائي د.مقبل بن علي الدعدي، ويناقش الكتاب موضوع التجديد اللغوي في ثلاث مستويات: النحو والبلاغة والمعجم، معتمدا أسلوب النقد والتحليل، ومقدما في الختام مقترحا لتطوير البحث العلمي والأكاديمي في الجامعات العربية.

خصوصية اللغة العربية

إن اللغة العربية بما هي لغة نص مقدس وليس تاريخيا، وإنما هو نص متجدد زمانا ومكانا، إن هذا الارتباط بين اللغة والقرآن يجعلها ذات خصوصية ينبغي أن توضع في الحسبان عند التفكير في تجديد اللغة، صحيح أن اللغة كائن حي، ولكن الكائن الحي ذاته يخضع لنظام البيئة التي ولد فيها، ولذلك فلا بد من مراعاة الخصوصية التاريخية والحضارية والدينية للغة العربية.

تجديد النحو

ينتقد الكتاب بعض المقاربات التي تقدم بها كتاب ولغويون عرب لتجديد اللغة العربية معتبرا أنها تفتقد أهم عنصر في عملية التجديد وهو الوعي الكلي بطبيعة الشيء المراد تجديده، من ذلك دعوة البعض لتجديد النحو العربي وإعادة بنائه ليصبح مثل نحو بعض اللغات الأجنبية الأخرى، ويتمثل ال بما كتبه عبد المجيد العيساني من أن السبب في الأزمة التي يعيشها النحو العربي هو جموده ـ لمدة زمنية طويلة ـ على ما هو عليه، بينما تعرف لغات أخرى تطورا وتجددا وحركة مستمرة.

 

ويرى مقبل الدعدي أن هذا الكاتب لا يراعي السياق الثقافي والتاريخي للغة العربية، كما لا يراعي طبيعة اللغة العربية المرتبطة بمقدس هو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويواصل الكتاب في شرح الاتجاهات التجديدية المعاصرة في النحو العربي، حيث طالب بعضها بالتقعيد للعامية واستبعاد اللغة الفصحى وهو اتجاه يترأسه كل من سلامة موسى وأنيس فريحة مقتدين في ذلك بالمستشرقين كوليم سبيتا وماسينيوس.

 

بينما ذهبت اتجاهات أخرى إلى ضرورة حذف أبواب نحوية بعينها لأنها في نظرهم غير مجدية، وقد أرهقت المتعلم دون ثمرة يرجوها منها في الاستعمال اللغوي، ويعد شوقي ضيف أشهر أصحاب هذا الاتجاه فقد حذف باب كان وأخواتها وأعرب الاسم المنصوب خبر كان (حالا)، وحذف باب ما ولا ولات العاملات عمل ليس، وحذف كذلك كاد وأخواتها وظن وأخواتها وباب الإعلال وباب التنازع.

أما أصحاب الاتجاه الآخر فقد أرادوا الاعتماد في آرائهم التجديدية على الأقوال النحوية الشاذة، كرأي قطرب في الإعراب وموقف ابن مضاء وابن الطراوة من العامل، كما ذهب آخرون إلى ضرورة استبدال اللسانيات بالنحو العربي وهذا هو أقوى الاتجاهات التجديدية في العصر الحديث، وأصحاب هذا الاتجاه ليسوا على رأي واحد عند الدخول في التفاصيل.

تجديد البلاغة

وعلى مستوى البلاغة يقدم د.صالح بن سعيد الزهراني بحثا بعنوان(صناعة التجديد البلاغي)، وقد ناقش فيه تطور البلاغة العربية وكيف انتقلت من الوصفية إلى المعيارية، فقد كانت البلاغة في المرحلة الأولى ـ حسب الزهراني ـ علما وصفيا يصف النصوص الأدبية ويستقطر دلالاتها الجمالية، وتحولت في القرن السادس الهجري إلى علم معياري يحدد المعايير الجمالية سلفا ويوجب على المبدع اتباعها، وهذا مسلك أفضى إلى كبح حركة الإبداع، وإيقاف تدفقه، وحظيت البلاغة بما حظي به النحو من تشدد في المعايير حرصا على النقاء الجمالي كما حرص النحاة على النقاء اللغوي.

 

صحيح أن نظرية النظم التي طرحها عبد القاهر الجرجاني كانت نظرية منفتحة على جميع النصوص، لكن وعي الجاحظ قبل ذلك ومن جاء بعده بتراتبية النصوص كان عاليا، وهي تراتبية تفرض خصوصية النظر على مستوى الأداة المنهجية في التصور والإجراء، فلم يتم التسامح في استخدام بعض المصطلحات مع النص القرآني كالمبالغة والسجع على سبيل المثال.

 

إن تفتيت الظاهرة اللغوية ـ الذي حصل في فترة المعيرة ـ إلى ثلاث بنى كبرى: التركيب، الصورة، الإيقاع كان ذا أثر سيء على النص الأدبي الذي لا يمكن فصل شكله عن مضمونه ولا تركيبه عن صوره وإيقاعاته، وإنما هو بناء كلي متناسق تأخذ العلاقات فيه شكلا متداخلا عضويا لا يقبل الفصل الصارم.

مقترحات لتجديد البلاغة

ولتطوير المنهج البلاغي ـ حسب الزهراني ـ لا بد من موجهات كبرى للمنهج تتأسس على نظرية خاصة في المعرفة تتمثل هويةَ الأمة وخصوصيتَها الحضارية، وتؤمن بتعددية النصوص، ومن ثم تعددية المناهج النقدية والبلاغية التي تحاكم على أساسها، فلا يصح محاكمة لغة النص الروائي أو المسرحي إلى معايير لغة النص الشعري ولا العكس، ولن يحدث هذا التحول التجديدي إلا بعد إعادة قولبة العقل البلاغي العربي ليعيد صياغة موقفه وأدواته التي يسائل بها النصوص.

وأخيرا فإن “الإنسان يفكر باللغة”، وفقدان اللغة يعني فقدان الجماعة ذاتها، لكن كثيرين يعتبرون اللغة محايدة وأنها مجرد أداة للتواصل والتفاهم، ولذلك لا يعيرون اهتماما للسياسات اللغوية التي تنتهجها الدول والحكومات كي تنهض أو تسقط أمة من مسار التدافع والتأثير، ذلك بأن اللغة هوية وذات، وأي خلل فيها أو تشويه بها هو بالضرورة خلل وتشويه في هوية وذات الأمة.

فمتى سنفهم أن الأمن اللغوي هي جزء مهم من الأمن القومي للأمة؟