مع تقدم الحضارة، وطبيعتها الاستهلاكية، تكثر أمراض الأسنان، نظرا للمأكولات والمشروبات المستحدثة التي قد تضر بالأسنان،  وعندها يبزغ طب الأسنان، فمع توسع المسلمون عالميا في القرون الأولى للهجرة، أخذت الأمراض والآفات تتسلل للأسنان، وهو ما فرض على الأطباء أن يولوا عناية خاصة بهذا الطب تشخصيا وعلاجا وتطويرا وابتكارا، ففي الصدر الأول للإسلام، كان المنهج الوقائي هو الغالب، فكانت المضمضة واستخدام السواك، وتنظيف الأسنان قبل الصلاة والنوم، والحرص أن تكون بيضاء نظيفة، فكانت تلك وسائل شرعية وصحية ووقائية لإبعاد الآلام والأمراض.

ومع التقدم في مضمار الحضارة، رفد الأطباء المسلمون طبَ الأسنان بالكثير من الجهود في الوقاية والعلاج وابتكار المواد والتركيبات والأدوات الجراحية لحشو الأسنان، أو خلعها إذا اقتضت الحاجة، وما وصل إلينا من إسهامات ليس كل ما كتبه الأطباء المسلمون، ولكن ما استطاع الإفلات من يد الزمن.

من الوقاية حتى زراعة الأسنان

عرفت الحضارة الإسلامية كل ما يتعلق بطب الأسنان والعناية بها، بدءا من التشخيص إلى الوقاية والعلاج، إلى عمليات التقويم والخلع والعلاجات المختلفة، وصولا إلى استبدال الأسنان المخلوعة بأخرى من عظام الأبقار أو الذهب والفضة، ويلاحظ أن طب الفم والأسنان لم يكن تخصصا متفردا بذاته، كما هو الحال في العصر الحديث، ولكنه كان مُتضمنا في الطب العام، وهذا ما منحه الكثير من الاهتمام، إذ حضرت الأسنان في غالبية الكتب الطبية، فكانت أحد مباحثهم، التي ينظرون إليها وفق منظور كُلي للحفاظ على صحة الجسد وعافيته، فخُصص فصل وأكثر في الكتب الطبية للأسنان.

وقد تناول الأطباء المسلمون أمراضَ الأسنان، والعلاقة بين الأسنان وعمر الإنسان، كما أنهم لم يستسلموا لآراء الطب اليوناني القديم، ولكنهم نقدوها وأضافوا إليها، واستحدثوا الكثير من العلاجات والمطهرات والجراحات، وأجادوا التشخيص والوقاية والعلاج،

ومن الابتكارات التي تميزت بها الحضارة الإسلامية علاج تسوس الأسنان من خلال ثقب السِن التالف من المنتصف ثم حقنه ببعض المواد والتركيبات لوقف الآلام، ولوضع الحشوات، المكونة من خليط من مواد غير قابلة للصدأ، لتعويض ما تلف من الأسنان، وكان من ابتكاراتهم نحت أسنان صناعية من العاج وعظام البقر لتكون بديلا عن الأسنان المخلوعة، كما ابتكروا خيوطا من الذهب لربطها بالأسنان حتى لا تسقط.

اهتم الفيلسوف والطبيب “ابن سينا” بعلاج الأسنان، ووصف أمراضها وكيفية علاجها، والتركيبات الطبية لوقف النخر، ومما استخدمه في حشو الأسنان مادة “الكافور” والتي كانت تُسكِن الألم وتوقف التسوس، يقول ابن اسينا:”وقد جُرب الكافور في الحشو فكان نافعا ويمنع التآكل ومسكن للألم”، كما تحدث “ابن سينا” عن العلاقة بين تغير لون الأسنان  والأمراض التي تصيبها، والمواد التي تستخدم لإماتت العصب حتى تتوقف آلام الأسنان، ومن المواد التي استخدمها الأطباء المسلمون “العلك الرومي” وهي مادة كانت تُحشى بها الأسنان التالفة.

كان “زين الدين الجُرْجَاني” الشهير بـ”الخوارزمشاهي”، وهو من أطباء القرن السادس الهجري، والذي لقب بـ”أبقراط الثاني” تناول علاج الأسنان في كتابه “زبدة الطب” فتناول تأثير تقدم العمر على صحة الأسنان،  فتحدث عن ضمور اللثة كلما تقدم العمر، وعرض لبعض العلاجات والتركيبات لمداوة الأسنان لتستعيد قوتها، وفي القرن الثاني الهجري تكلم “علي بن سهل ربَّن الطبري” عن الأسنان، ولقبة “ربن” بالفارسية تعني الأستاذ، ومن أشهر مؤلفاته الطبية ” فردوس الحكمة “، حيث خصص فصلا عن أمراض الفم والأسنان، أما الطبيب “ابن القف” موفق الدين يعقوب ابن اسحق، وكان طبيبا مسيحيا، فتحدث عن الأسنان وخلعها في كتابه “العمدة في الجراحة”، وفي القرن التاسع الهجري شرح “نفيس بن عوض الكرماني” في كتابه “شرح الأسباب والعلامات في الأمراض ومعالجتها” بعضا من أمراض الأسنان، خاصة سقوط الأسنان، أما الطبيب “أبو بكر ربيع بن أحمد الأخويني” في القرن العاشر الهجري، فخصص في كتابه “هداية المتعلمين في الطب” فصلين عن الفم والأسنان، ويعد أول من كتب في علاج الأقواس الضرسية وتشوهات الفم، ودور بعض الأعصاب في إثارة ألم الأسنان، كذلك قدم بعض المطهرات العطرية للفم، وتحدث عن خلع الأسنان كحل أخير في حال فشل العلاجات.

أما تحدث الطبيب “أبو بكر الرازي” فكتب عن الأسنان والأمراض التي تصيب الفم خاصة التجويفات، والأطعمة والمشروبات الضارة بالأسنان، أما “ابن البيطار” المتوفى 646هـ والمختص بعلوم النبات والعقاقير، فقدم وصفات وتركيبات لعلاج أمراض الأسنان، وتحدث الأطباء المسلمون عن أسنان الأطفال، منذ بداية نموها، والأمراض التي تصيبها، وكيفية علاجها مثل: “أحمد بن محمد البلدي” وهو من أطباء القرن الرابع الهجري في كتابه “تدبير الحبالى والأطفال والصبيان”، وفي الأندلس كان الطبيب”عٌريب بن سعيد القرطبي” المتوفى (370هـ) في كتابه “خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولودين” حيث خصص الباب العاشر من الكتاب لطب أسنان الأطفال وتنقلهم في مراحل العمر المختلفة.

ابتكارت في طب الأسنان

من الابتكارات، استعمال الأطباء المسلمون للتخدير عند علاج الأسنان، وكان يُسمى “المرقد”، فكانوا يضعون مواد مخدرة على إسفنجة ثم تجفف، ثم توضع على أنف المريض، ليدخل بعدها في نوم عميق، وكانت حلا للتغلب على آلام خلع الأسنان، أما “ابن سينا” فتحدث عن إصلاح كسور الفك.

وقد عرف الأطباء المسلمون خلع الأسنان، وكانت حالة لا يلجأ إليها الطبيب إلا مع استحالة شفاء السن أو الضرس، ولوقف الآلام التي يسببها، وبعد استنزاف سُبُل المداواة والعلاج، فكان “الزهراوي” يعتبر الخلع أمرا لا يقع إلا مع الضرورة القصوى، وكان يصف الأسنان الطبيعية بأنها “جوهر شريف”، وربما هذه الرؤية ما صرفت اهتمام الأطباء المسلمون للبحث عن العلاجات، فـ “الزهراوي” من أوائل من كتبوا عن خلع الأسنان، وحالاتها المختلفة، وكذلك مضاعفاته، والحلول الطبيبة لمواجهة ذلك، وهو ما دفعه إلى ابتكار آلات لحشو الأسنان وخلعها، والسعى لتقليل الألم أثناء الخلع، مثل الكلابات، والمعروف أن كتابه “التصريف” احتوى على رسم ووصف لأكثر من مائتي آلة، اختص بعضها بالأسنان، فقد كان الأطباء المسلمون يراعون الحالة الصحية للمريض قبل خلع الأسنان  وخلو المريض من الالتهابات الحادة في اللثة أوالفك،  منعا للمضاعفات.

وفي الأندلس ابتكروا نوعا من المضمضة وغسول الفم يسمى “السنونات” وهو دواء  لتقوية اللثة وتطهير الفم والحفاظ على سلامتها، وابتكر الطبيب “أبو الحسن علي بن محمد التجيبي” المتوفى 636هـ وصفات أسماها “الغاسولات”، وسبق “الزهراوي” غيره من الأطباء في الحديث عن الألم المتنقل في الأسنان، والذي يمثل إشكالا للطبيب المعالج، وربما دفعه للخطأ،  فيخلع السن الصحيح ويترك الأسنان العليلة.