أشرنا فيالمقال السابق إلى رؤية الشيخ محمد رشيد رضا للمراحل الثلاث التي تمر بها الأمة، كالإنسان.. وهي مرحلة الطفولية ثم الرجولية، إضافة لما بينهما من مرحلة تشتد فيها حاجة الأمة لمن يوجهها ويرشدها؛ حتى لا تنتقل لمرحلة “الرجولية” بالسماتِ نفسِها التي عرفتها في مرحلة “الطفولية”؛ والتي وإن تكن مقبولة آنذاك فإنها لا محل لها في طور الرجولية.

وفي هذا المقال نواصل الحديث تفصيلاً عن رؤية رشيد رضا للأسباب التي أوقعت الأمة في الحيرة والغمة، وجعلتها لا تبرح مرحلة الطفولية..!

يبين صاحب المنار، رحمه الله تعالى، أن “المسائل التي لبَّست على الأمة الحق بالباطل، وشَبَّهت الرشاد بالغيّ، وأوقعتهم في الحيرة والغمة؛ تنقسم إلى قسمين: قسم قديم العهد؛ دخل أكثره على الأمة من باب الدين، فاخترق القلوب ونفذ إلى أعماق النفوس. وقسم حديث النشأة؛ دمر على الأمة من باب التمدن العصري”.

الانحراف من جهة الدين: أما القسم الأول فمن أهم مسائله وأسبابه، بحسب رؤية رشيد رضا:

اعتقاد أن الأمة يجب أن تكون دائمًا في تَدَلٍّ وهبوط، وأن الترقي والتقدم مستحيلان؛ لأن هذا من علامات قرب الساعة. وهذا الاعتقاد فاشٍ في المسلمين، ويروون فيه أخبارًا وآثارًا اشتبه على الجماهير صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها؛ ولا يمكن أن تنجح مع هذا الاعتقاد أمة.
ومنها أنه ليس للمسلمين إلا نهضة واحدة تكون قبيل قيام الساعة على يد المهدي المنتظر؛ الذي يُنصَر بالكرامات والعجائب، لا بالقوة والعصبية. وهذا الاعتقاد قريب مما قبله في مضرته وفي شُبَهه وأدلته.

ومنها أن الدنيا والآخرة ضرتان، وضدان لا يجتمعان، وأن مَن يرغب في زينة الدنيا ولذاتها يكون منحرفًا عن طريق الآخرة. والكتب والخطب مملوءة بهذا، ويستشهدون عليه بالآيات والأحاديث من غير فهم، غافلين عن وجوب الأخذ بالكتاب كله، والجمع بين تلك النصوص وما يناقضها إذا كان معناها ما يزعمون؛ كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32). ومنها زَعْمُ أن العلمَ بالموجودات وخواصِّها- المفصَّلَ ذلك في الطبيعيات- يؤدى إلى الكفر وترك الدين! مع أنه [أي العلم] أصل البراهين على الاعتقاد، وقد نَبّه عليه القرآن كثيرًا، ويستحيل أن تنجح أمة في هذا العصر إلا بالصنائع المأخوذة من هذه العلوم.

ومنها طَلَبُ المصالح والمنافع من غير الطرق التي جعلها الله تعالى في نظام الخليقة طريقًا لها؛ كالاعتماد على الكرامات والخوارق من الأحياء والأموات.

ومنها فَهْمُ القضاء والقدر على غير وجههما. ألا ترى أن سَلَفَنا الصالحَ- رضي الله تعالى عنهم- ما ازدادوا بهذا إلا إقدامًا على الأخطار، وتقدمًا في الفتوح.. وخَلَفَنا الطالحَ جعلهما بمعنى الجبر وسلب الاختيار؟!

ومنها فَهْمُهم للتوكل بما يوقع في الكسل، ويحول دون التدبير والجد في العمل. وكذلك فَهْمُهم للقناعة بما يؤدي إلى مثل هذه الشناعة.
ومنها الاعتماد على الحكام في جميع الشئون العامة.

ومنها عدم انتقاد الرؤساء من الحكام والعلماء.. مع أن بعض الباحثين في أحوال الأمة ممن لهم نظر في علم الاجتماع يرون أن الأمة لا تنجح ما دامت تخضع لهم الخضوع الأعمى؛ بل لابد أن تفهم وظائفهم وتُلزمهم بها؛ ويرون أن انتقادهم يُلجئهم ولو بعد حين إلى القيام بخدمة الأمة.
ومنه أن معرفة الحق: بقائله. وهذا مجال واسع ومضراته كثيرة، وله شُعب لا تحصى؛ من أهمها: عدم أخذ العلم والصناعة عن الأوربيين. ومن الناس من يدخل هذا الأخير في باب الدين، فيزعم أن جميع ما نحتاج إليه في هذا العصر يوجد في كتبنا، وإذا نازعه في هذا منازع يرميه بنسبة الدين وأهله للتقصير.

ومنه مسألة تربية النساء، وتعليمهن فنون تدبير المنزل وتربية الأولاد والاقتصاد في المعيشة. ومن الناس من يهدم هذا الركن من سعادة الأمة بمعول الدين، ذاهبين إلى أن المرأة ما خُلقت إلا للفراش.

إذن، فالشيخ هنا يرصد الأسباب التي جعلت المسلمين يتخبطون في “طور الطفولية”، من جهة الانحراف في الدين..

وذكر عدة مسائل أو قضايا أصابها الانحراف؛ مثل: الانحراف في التعامل مع قضايا وأحكام آخر الزمان، وحالِ الأمة قبل وعند قيام الساعة.. عدم فهم الموقف المطلوب شرعًا من الدنيا، استفادةً من خيراتها وتسخيرًا لها؛ مما يدفع لزهد يعطل أداء الرسالة.. مخاصمة العلم وعدم تقديره، وإحداث نزاع مصطنع بينه وبين الدين.. الانحراف في فهم: الكرامات، والخوارق، والقضاء والقدر، والتوكل، والقناعة… عدم ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم بما يحفظ لكلٍّ حقوقه، ويدفعه لأداء واجباته.. إساءة الموقف المطلوب في التعامل مع الآخر والإفادة منه؛ دون جمود أو ذوبان.. إضافة إلى إغفال دور المرأة في النهوض بالمجتمع، جنبًا إلى جنب مع الرجل.

ويا لها من أسباب..! وكأن الشيخ يخاطبنا واقعنا من وراء حجاب.. أو كأننا لم نبرح مكاننا الذي تَرَكَنا الشيخُ عنده..!

الانحراف من جهة العصر والواقع: وأما القسم الثاني، أي الذي دمر الأمة من باب “التمدن العصري”؛ أي ظهر في العصر الحديث ولم يكن يُعرف قديمًا فمن أهم مسائله: ذم التعصب الديني: [أي ذم أن يكون الدين أساسًا للعصبة والوحدة.. وإقصاء الدين لصالح أنواع أخرى من العصبات تُضاده؛ كالعصبة حول الأرض أو العرق]([1]).

ومنها مسائل الحرية والماسونية والمدنية: [طبقًا للمفاهيم الغربية لهذه الكلمات، والتي تتخذها ستارًا لترويج مفاهيم مغايرة للمفاهيم الإسلامية.. وإلا فإن الإسلام يجعل الحرية فريضة، ويجعل الاجتماع البشري “المدنية” ضرورة، وسنَّ لذلك آدابًا وأحكامًا.. أما الماسونية فحركة سرية تبطن غير ما تعلن، وتخاصم الأديان، والإسلامَ خاصة؛ كما جاء- لاحقًا- في فتوى المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي].

ومنها مسألة الجامعة الوطنية؛ فهي من الآلات المحللة لجسم المجتمع الإسلامي ومقطعة للرابطة الدينية التي هي أقوى الروابط وأشرفها. وقد ظهر أثر ضررها في المسلمين؛ ولكن أنَّى لهؤلاء الأطفال في مهود الحياة الاجتماعية أن يميزوا بين الرابطة الملية والرابطة الوطنية، فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟

ثم يوضح صاحب المنار أن “الذين نفثوا في المسلمين سُمّ الوطنية، وجعلوه أقدس الروابط الاجتماعية أرادوا به أمرين؛ أحدهما: فصم العروة الإسلامية الوثقى التي تربط المسلمين في جميع أقطار الأرض وتجعلهم إخوة. وثانيهما: التأليف بين المسلمين وبين من يخالفهم في الدين في بلادهم؛ لتصان بذلك مصالح المسيحيين في بلاد الإسلام”.

وبيَّن رشيد رضا- في إنصاف من المهم ملاحظته- أن الأول (أي فصم العروة الإسلامية) مُضِرٌّ بالمسلمين، دون الثاني (أي التأليف بين المسلمين ومَن يخالفهم في الدين في بلادهم).

وحذّر من أن “الأمة في طور الانحطاط تختار الضار على النافع؛ فأثرت نزعات الوطنية في التفريق بين المصري والسوري المسلمَيْن، ولم تجمع بين المسلم والقبطي المصريين. والسبب في هذا الأخير أن الارتباط الوطني ما جاءهم من طريق الدين؛ فلم يؤثر فيهم؛ وأما التفريق بين المسلمين فقد ساعد عليه فسادُ الأخلاق مع الغفلة عن مساسه بآداب الدين وقطعه رحم الأخوة الإسلامية”.

وختم رؤيته بالقول: “هذا ما سمح المقام بذكره من مناشئ الحيرة والغمة في هذه الأمة؛ لأنها في طور طفولية كما قلنا، وفَهْم ما ينفعها ويضرها يَعْسُر عليها إلا بالزمان الطويل”.

وهكذا نرى السيد محمد رشيد رضا، في القسم الثاني من أسباب تخبط الأمة في مرحلة الطفولية، يحذر من الانحراف الحاصل من جهة العصر والواقع، راصِدًا عدة مفاهيم وثغرات أثّرت سلبًا في تصورات المسلمين وفي سلوكياتهم؛ حتى صاروا فريسة سهلة ولقمة سائغة لمن يريد أن يَحرف مسارهم، ويُمزق مجتمعاتهم، بدعاوى برّاقة ليس لها من اسمها أي نصيب..!

إنها صرخة واعية من إمام مجدد، جمع بين البصر بالإسلام وحقيقته ومفاهيمه، وأدرك ما وقع في ذلك من خلل.. بجانب بصره بواقع زمانه وما حصل فيه من ثغرات..

وما أحرانا أن نستجيب لهذه الصرخة، ونستعين بالله تعالى على سدِّ الخلل..


([1]) في “المنار” بتاريخ 2 مارس 1900، (المجلد الثالث، ص: 4)، أعاد رشيد رضا نشر مقال كانت “العروة الوثقى”- الأفغاني ومحمد عبده- قد نشرته، وهو بعنوان (التعصب). وجاء فيه مما يوضح مقصود رشيد رضا من كون “ذم التعصب الديني” أحدَ الأسباب التي أوقعت الأمة في الحيرة والغفلة:

“إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي الرابطة الدينية, وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية. ولأولئك الإفرنج مطامع في ديار المسلمين وأوطانهم، فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب الديانة الإسلامية, وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة, وفصم حبالها؛ لينقُضوا بذلك بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا؛ فإنهم علموا كما علمنا وعلم العقلاء أجمعون أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم. وتسنى للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية, وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلاً وتقليدًا، فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعدما فقدوها, ولم يستبدلوا بها رابطة الجنس (الوطنية) التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقًا منهم وسفاهة. فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنًا سواه؛ فاضطر للإقامة بالعراء معرَّضًا لفواعل الجو وما تصول به على حياته”. أ.هـ.