قبل أن نتحدث عن العلواني كأحد مجتهدي العصر لا بد من طرح سؤال في غاية الأهمية، وقد طرح من ذي قبل؛ وهو هل كان العلواني مؤهلا للاجتهاد؟ الجواب باختصار أنه إذا كانت العدة الأصولية هي التي تؤهل الإنسان لممارسة الاجتهاد فإن هذا الرجل قبل أن يكون مفكرا كان أصوليا ومقاصديا، وقد درس علم أصول الفقه مدة لا تقل عن أربعين سنة، وجهوده في هذا العلم أكثر من أن تعد وتحصى، وحسبي في هذا المدخل أن أشير إلى بعضها حسب ما يسمح به الزمان والمكان:

أولا:تحقيقه لمحصول الإمام الرازي في أصول الفقه: والذي شهد غير واحد من المنصفين على أنه أحسن تحقيق للكتاب، وقد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود بطبعه ونشره في ستة مجلدات 1980م، ثم طبعته مؤسسة الرسالة طبعة ثانية سنة 1992م، وطبعة ثالثة سنة 1997م. وفي مقدمة تحقيقه يؤكد العلواني أن “علم أصول الفقه من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله في كتابه وسنة رسوله” . وفي حديثه عن أهمية كتاب الرازي يبين أن المحصول جمع ما تفرق فيما سبقه من أمهات الأصول، بدءا بالرسالة، مرورا بالبرهان والمستصفى، ووصولا إلى ما كتبه كل من القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري. بل لقد أضاف إلى ذلك من علمه الغزير ما جعل طلاب الأصول يستغنون به عما سبقه. وهذا يدل على أن الرجل لم يكن علمه بالأصول منحصرا فيما كتبه الرازي؛ وإنما له دراية كبيرة بهذا العلم منذ ولادته.

ثانيا:كتابه أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة: وهو كتاب صغير الحجم، نشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1995م، وفيه يناقش المؤلف إمكانية جعل المنهج الأصولي منهجا لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية، وفي مقدمة الطبعة الثانية للكتاب يلفت النظر إلى أمرين هامين:

الأمر الأول: له علاقة بمسألة المنهج، ومن هذه الجهة يرى الدكتور العلواني أن هذا الكتاب حين أعد كان يمثل مقدمة لبحث موسع، أو لعدة بحوث ودراسات تعالج أزمة أو إشكالية المنهج الراهنة، أو تقدم منهجاً بديلاً عن مناهج البحث المأزومة، توظف فيها الخبرة الفكرية الإسلامية، والتراث الإسلامي بشكل مناسب، خاصة وأن أصول الفقه باعتباره منهج بحث ومعرفة مختص بالظاهرة الفقهية، وهي إنسانية أو اجتماعية على أية حال، ولكنها تحمل خصوصية لا يمكن تجاهلها من حيث إنه يتناول هذه الظاهرة في إطار البحث عن حكم فقهي لها مستمد من الأدلة الشرعية التفصيلية، فهو منهج استنباطي يعتمد على بعض المناهج الوسيطة، كالمنهج اللغوي، والتاريخي بشكل ما.

ومن هنا يرى الدكتور العلواني، أن أصول الفقه بقراءة إسلامية واعية، مستلهمة توجهات منهجية القرآن المعرفية، يستطيع أن يقدم مؤشرات هامة على طريق معالجة إشكالية المنهج.

الأمر الثاني: له علاقة بمسألة طبيعة العلاقة بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، ومن هذه الجهة يرى الدكتور العلواني أن دراسة أصول الفقه، وتحليل جوانبه المختلفة، وعناصره الأساسية التي يتألف منها، مفيدة جداً لمناهج دراسة الظواهر الاجتماعية، والكشف عن العلاقة بين الاثنين هام ومفيد جدا، وأن موضوع العلاقة بين أصول الفقه وبين العلوم الاجتماعية أمر لم يكتب فيه، ولم يميز إلا مؤخراً، وجاء في إطار محاولات بعض المعرفيين المسلمين إيجاد بدائل إسلامية، خاصة في إطار العلوم والمناهج التي تعاني من إشكاليات كبرى، لطالما تنادى العلماء والمتخصصون إلى البحث فيها، دون أن يأتوا بحلول لتلك الإشكاليات.

ثالثا: كتاب “مقاصد الشريعة”: وهو منشور ضمن السلسلة الدورية التي تصدرها مجلة قضايا إسلامية معاصرة، وقد طبع مرتين، الأولى سنة:2001م، والثانية سنة2005م. وهو كتاب من الحجم المتوسط، يقع في 190 صفحة، وهو مقسم إلى خمسة فصول؛ الأول منها في التأكيد على ضرورة المراجعة الشاملة للتراث، والثاني في التمييز بين فقه الأولويات وعلم الأولويات، وهو مبحث من المباحث المقاصدية المهمة. أما الفصل الثالث فهو عبارة عن جملة من الأسئلة الكبرى التي طرحها المؤلف بخصوص فقه الأقليات. وفي الفصل الرابع من الكتاب يتحدث عن الأثر السلبي الذي يلحق العقل المسلم كلما غيب فقه المقاصد أو أغفله، سواء في الفهم أو في التنزيل. وفي الفصل الخامس والأخير يتحدث عن المقاصد الشرعية العليا الحاكمة، وهي كما يعرفها “كليات مطلقة قطعية تنحصر مصادرها في المصدر الأوحد في كليته وإطلاقه وقطعيته وكونيته وإنشائه للأحكام، وهو القرآن المجيد”. وهذه المقاصد هي التوحيد والتزكية والعمران. فأما الأول فهو حق الله على الإنسان، والثاني حق الإنسان على نفسه، والثالث حق الكون على الإنسان. وهذه المقاصد الثلاثة – كما يقول المؤلف-  ستكشف لنا عن جدلية وتفاعل تقوم بين الله والإنسان والكون المسخر، فالله هو الخالق المُستخلِف، والإنسان هو المخلوق المُستخلَف، والكون هو المُسخر، وهو ميدان الفعل.

رابعا: كتاب “نحو التجديد والاجتهاد: الفقه وأصوله أولا”: وفيه نلحظ انتقال الرجل من أصولي إلى مجتهد في الأصول؛ ففي هذا الكتاب يناقش جملة من الأمور التي ينبغي أن تراجع في الفقه والأصول؛ حيث نجده يتساءل مثلا:

هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد بشرع من قبله؟ وهل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة الإسلامية أم ليسوا مخاطبين بها؟ وهل العقل له سلطة في التحسين أو التقبيح؟ كما يطرح في نفس السياق إشكالية التوسع الملفت للنظر في عدد الأدلة المختلف فيها، والتي أوصلها بعض المتأخرين إلى سبعة وأربعين دليلا، بعضها لم تبن عليه إلا مسألة واحدة.

ومن القضايا التي ينكرها الدكتور طه على الأصوليين انشغالهم بالدليل الجزئي بدلا من الانشغال بالقرآن الكريم ككل؛ وهذا ما كرس منهج التعضية الذي عابه القرآن على الجاحدين من المشركين وأهل الكتاب ((الذين جعلوا القرآن عضين)) . وكان الأولى أن يعمد هؤلاء الأصوليين إلى النظر في المناسبات والسياقات والروابط بين الكلمات في إطار الآية وبين الآيات في إطار السورة، وبين السور في إطار القرآن كله. وضمن هذا الإطار تم التعامل مع مفهوم التكليف في إطار ضيق؛ أدى إلى تغييب عالمية القرآن.

وإن من مخلفات هذه النظرة الضيقة أن أدرجت كل متطلبات العمران والشهود الحضاري تحت مفهوم ” فروض الكفايات ” وفسرت على أنها فروض ثانوية؛ بحيث إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا التصور القاصر أدى في عصور التقليد والتخلف إلى إهمال تلك الفروض؛ فعطلت بذلك قراءة سنن الله في الكون والآفاق والأنفس.

وإن قراءة سريعة لهذه المؤلفات وغيرها جعلتني ألحظ أن للعلواني رحمه الله منهجا علميا فريدا في بحثه علم الأصول، وسأحاول أن أحدده أهم الملامح التي تميز هذا المنهج من خلال الآتي:

أولا: تأصيله العلمي لتاريخ أصول الفقه بدءا من عهد الوحي؛ إذ يعتبر أن أصول الفقه صاحب نزول الوحي، وأن الصحابة رضوان الله كانوا يوظفون كثيرا من القواعد الأصولية والمقاصدية، وإن كانوا لا يسمونها بما تسمى به اليوم.

ثانيا: تأكيده على أن مرحلة الشافعي إنما هي مرحلة تدوين؛ بحيث دون فيها ما كان معمولا به من القواعد، وليست مرحلة تأسيس أو اختراع علم جديد.

ثالثا: تتبعه لتطور علم أصول الفقه منذ عصر الشافعي إلى القرن السابع وما بعده، وتحليله لطبيعة كل مرحلة، وما تميزت به.

رابعا: بيانه أن القرن الثالث عشر من الهجرة كان هو بداية إخفاق الحركة الأصولية، حيث الجمود على ما ألف من قبل، وتفسيره ذلك بأنه بدأ يوم أغلق باب الاجتهاد.

خامسا: دعوته إلى تجديد كثير من مباحث الأصول، وفق المنهجية المعرفية القرآنية.

سادسا: دعوته إلى تجاوز ذلك الفصام الذي يعاني منه الدرس الأصولي ما بين الإقرار النظري لحاكمية القرآن والاستحضار الفعلي لها. وهذا الإشكال لا يرتبط فقط بالمعرفة الأصولية؛ بل بالعلوم الإسلامية كلها؛ وهنا نجده يتساءل: أين العلوم التي بنيت حول القرآن من حاكمية القرآن؟

ومن أهم الأصول التي أصّلها العلواني لفقه حضاري ينطلق من الواقع ليواكب التطورات، ويستجيب للحاجيات الإنسانية سبعة أصول:

القرآن الكريم هو المصدر المنشئ للأحكام والكاشف عنها، والسنّة النبوية هي النموذج العملي لما جاء في القرآن.

– اعتبار القرآن الكريم بنية واحدة، ووحدة متكاملة، بحيث لا ينبغي قراءة الجزئي إلا في إطار الكلي.

– استحضار حاكمية القرآن وهيمنته، وأنه قاضٍ على ما سواه بما في ذلك الأحاديث والآثار.

– اعتبار عالمية الخطاب القرآني: فالخطاب الموجه إلى عالم اليوم لا بد أن يقوم على قواعد مشتركة وقيم مشتركة.

– فهم الواقع المعاش بمركباته المختلفة باعتباره مصدراً لصياغة السؤال والإشكال الفقهي.

– الإقرار بأن فقهنا الموروث ليس مرجعاً للفتوى أو صياغة الحكم، وإنما سوابق في الفتوى والقضاء يمكن قبولها كما يمكن ردها.

– اختبار الفقه في الواقع العملي: فعملية استنباط الأحكام وتقديم الفتاوى عبارة عن جدل متواصل بين الفقه والواقع.

ومن المهم أن أذكر أن الأخذ بهذه الأصول هو ما أهّل العلواني للاجتهاد الحضاري في قضية كقضية “فقه الأقليات”.