نحن بحاجة لأن نعلم مناط التجديد الديني الذى يتكرر عنوانه في فكر الدعوة المعاصرة المتنوعة، ثم نحن بأمس الحاجة لأن نعلم من العلماء المجددين وما أوصافهم التى تؤهلهم للنظر في المسائل المدروسة بعينها، فإذا جاء عالم باللغة أو بالفلسفة أو بالهندسة على مركب تجديد الدين ويخوض في رياض السنة النبوية ويدلو دلوه ليقول على المنبر للناس: الراحج عندي في حديث كذا وكذا…وهو لا يملك جملا ولا ناقة في الباب، ولا شك أن هذا من المخاطر التي تهدد بيضة الأمة، وما أكثرهم اليوم.

كثر في الساحة الحالية التحامل الشديد على الظاهرية والإفراط في ذم من جنح إلى الأخذ بظواهر النصوص، وأصبحت كلمة “الظاهرية” عند كثير صفة سلبية محضة توصف به من يقف عند النص، وكأن مجرد الأخذ بظاهر النص جريمة مع أن العكس هو الجناية، إذ الأصل إجراء النصوص على ظاهرها ما لم توجد قرينة صارفة وليس التأويل هو الأصل، وهذا مطرد في نصوص العقيدة والأحكام معا.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله:” القرآن عربي…والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها، ليس لأحد أن يحيل منها ظاهرا إلى باطن، ولا عاما إلى خاص إلا بدلالة من كتاب الله، فإن لم تكن فسنة رسوله صلى الله عليه وسلم…”[1] .

وقال ابن القيم:” الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك، ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه”[2] .

ولا يجوز التجرؤ على إخراج النص عن ظاهره باسم التجديد أو فقه المقاصد أو حرب الجمود ونحوها بلا دليل نظيف، بل حمل النصوص على ظاهرها هو مطلب شرعي أصيل، وفيه تعظيم للنصوص وتقديرها حق التقدير، والذي هو في نهايته السبيل إلى تعظيم فقه النص في حقيقة الواقع.

الانتساب إلى علم الحديث شرف

تزين هذا العصر بوجود عدد هائل من أبناء الإسلام في كل قطر يهتمون اهتماما واسعا بالسنة النبوية وبدراسة الحديث النبوي، وما ذاك إلا بإشراق شمس التوفيق للنهضة العلمية والثقافية – المبذولة من طرف أئمة العصر كالشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني وغيرهما – في تقريب السنة بين يدى المسلم المعاصر وأهمية التأسي به عليه الصلاة والسلام، ولشرف الانتساب للحديث ونقلته الأخيار المحظوظين الحقيقيين بقوله عليه الصلاة والسلام “أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة”[3] وهم أكثر الناس صلاة وتسليما على النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول بعض أهل العلم:”  أشدّ البواعث وأقوى الدَّواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”[4] .

ولأن أصحاب الحديث يدخلون دخولا أوليا في دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام : “نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه”[5] .

وقال سفيان بن عيينة معلقا على الحديث:” ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث” [6] .

وقال الإمام الشافعي:” أهل الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم”[7] ويقول أيضا: إذا رأيتُ صاحبَ حديثٍ فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ” .[8]

وكل هذه الأمور وغيرها تجتمع لتجعل أفئدة الناس تتشرف بالانتساب إلى السنة النبوية، لكن منهم من ينتسب إليها قلبا وقالبا ومنهم دون ذلك.

صحيح أن واقعنا المعاصر مليئ بالنهضة الحديثية في مختلف الأنحاء، إلا أنه يوجد في الواقع أيضا من المنتسبين إلى علم الحديث الشريف وكان في مسلكهم دخن وخلل سافر في التعامل مع السنة النبوية، ويعتبر صنيعهم عقوقا للسنة وتعديا عليها، ومن صور ذلك ما يلي:

1- تبنى كثير من أدعياء علم الحديث نقد الأحاديث تحت مظلة خدمة السنة النبوية، فتصدوا للحكم على الحديث بلا دراية كافية عن مسالك النقاد في الحكم على الراوي والمروي وعن قواعد الجرح والتعديل وطرق التخريج ونحوها، بل تجرأوا على التصحيح والتضعيف بمجرد الإعتماد على كتاب تقريب التهذيب وما يضارعه، بلا أن يثنوا ركبهم ويزاحموا بها في مجالس العلماء ولم يسلكوا الجادة المطروقة في طلب العلم.

وقيل لسفيان بن سعيد الثوري، فيمن حدّث قبل أن يتأهّل، فقال: إذا كثر الملاّحون غرقت السفينة[9] ، وقديما قيل: “من كان شيخه كتابه؛ كان خطؤه أكثر من صوابه ” .

2- التشنيع على المخالف بدافع تطبيق قواعد الجرح والتعديل، وإن مما يجرح القلب ويدمع العين أن يتبوأ الأحداث مقاعد الجرح والاستطالة في الأعراض على الضوابط الخاصة بهم، بل ترى بعض المنتسبين إلى علم الحديث قالبا وهو لا يعرف صحاح الأخبار الواردة في باب الوضوء مثلا، لكنه حافظ أسماء المجروحين المعاصرين –بغير حق- من أهل العلم الكبار، وأصبح المجروح جارحا.

 قـال الذهبـي في ترجمة أبي عبدالرحمن بن سلمة البصري الأفطس:كان يستخف بالأئمة قال: يكذب سفيان ، وتكلم في غندر، وقال عن القطان: ذاك الأحول.

وكذا سنة الله في كل من ازدرى العلماء بقي حقيرا ” [10] .

وكأن هؤلاء لم يقرأوا كلام الإمام ابن دقيق العيد: ” أعراض المسلمين حفرة من حفر النار “[11] فإذا كانت أعراض المسلمين حفرة فكيف بأخيارهم؟ قال بعضهم: أدركنا السّلف وهم لا يرون العبادة في الصّوم ولا في الصّلاة، ولكن في الكفّ عن أعراض النّاس[12] ، ثم انظر إلى ابن أبى حاتم- الذي يعرفه صبيان أهل الحديث وكبارهم، فشهرته في العدالة والعلم والورع ساطعة وذائعة، وكتابه الجرح والتعديل المعروف عند أهل العلم بالحديث، وقد قيل له يوما وهو يقرأ في كتابه الجرح و التعديل : كم من هؤلاء القوم قد حطُّوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم؟ فبكى عبد الرحمن[13] ورعا.

وعلم الجرح والتعديل قائم على النصيحة في الدين لا على الشهوة والشهرة، ثم إنه حكر على النقاد المشهود لهم بالعلم في هذا الباب فقط، لا لمن يريد أن يتخذه مطية للأغراض أخرى.

ولذا يقول الشيخ بكر رحمه الله: ” احذر هذا الانشقاق، لا تقع في مثله مع المنشقين الجرَّاحين المبذرين للوقت والجهد والنشاط في قيل وقال وكثرة السؤال عن تصنيف العباد، وذلك فيما انشقوا فيه، فهو ذنب تلبسوا به، وبلوى وقعوا فيها، وادع لهم بالعافية “[14] .

3-تجريد علم الحديث عن الأخلاق، فإن سلطان حسن الخلق غائب في حياة بعض المنتسبين إلى السنة النبوية وإنما جل اهتمامهم ينصب على التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل والتمسك بالسنة في الهيئة الظاهرة، لكن رصيدهم في المعاملة الحسنة وحسن الخلق منخفض، فأساءوا إلى السنة من حيث لا يشعرون، وعلى هؤلاء ننعي عقوقهم للسنة النبوية، فعلم الحديث بطبيعته يدعو للأخلاق الفاضلة.

 يقول مخلد بن الحسين:” نحن إلى كثيرٍ من الأدب أحوجُ منا إلى كثيرٍ مِن الحديث”[15]

وقال الخطيبُ البَغدادي: الواجب أن يكون طلبةُ الحديث أكملَ الناس أدبًا، وأشدَّ الخَلْق تواضعًا، وأعظمهم نزاهةً وتديُّنًا، وأقلهم طيشًا وغضبًا؛ لدوام قرعِ أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدِّثين، ومآثِر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، ويصدِفوا (يبتعدوا) عن أرذَلِها وأدونها”[16] .


[1] اختلاف الحديث ص:480

[2] إعلام الموقعين  3/89

[3]  رواه الترمذي (484) وحسنه الألباني

[4] شرف الحديث والمحدثين

[5] رواه أحمد في المسند (4157) وصححه المحقق

[6] المستخرج على المستدرك للعراقى

[7] قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، ص:49

[8] المصدر السابق

[9] المحدث الفاصل ص:560

[10]  تاريـخ الإسـلام 13/256

[11] الاقتراح ص: 344

[12] الصمت لابن أبى الدنيا (191)

[13]  الكفاية للخطيب (71)

[14] تصنيف الناس بين الظن واليقين ص95

[15] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (11)

[16] المصدر السابق 1/78