الجاهلية ليست فترة معينة من الزمان، عاشها الناس ثم انتهت. الجاهلية أقرب لأن تكون حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات وسلوكيات يمارسها الناس في مجتمعاتهم. ويمكن أن توجد هذه الحالة وهذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، بغض النظر عن مدى تقدم أو تأخر البشر وتحضرهم.    

الصورة الذهنية عند كثيرين، ما إن يسمع أحدهم بمصطلح الجاهلية، تتمثل في ذاك المجتمع العربي المفكك أو المبعثر قبيل بعثة خير البشر محمد – صلى الله عليه وسلم – حيث الجهالة التي كانت ضاربة بعمق، في الفكر والمعتقد والسلوك والأخلاق وغيرها من مظاهر الحياة. وقد انتهت تلكم الجاهلية في جزيرة العرب وما حولها بفضل من الله، بعد أن انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا. لكن هل انتهت وتبخرت وتلاشت؟ واقع الأمر يقول لا، وأنها باقية، بل تتعمق وتتوسع في كل العالم دون استثناء.

حتى لا نفقد خيط الموضوع.. أقول بأن الجاهلية قد تكون صفة لشخص أو مجتمع، فيقالُ شخص جاهلي أو مجتمع جاهلي، وذلك حين يتصرف أو يقوم الشخص أو المجتمع بسلوكيات معينة، أو يتسم بمظاهر تناقض العلم الصحيح وتعاكس المنطق السليم، بغض النظر عن الزمان والمكان. ومعنى هذا أنه يمكن اعتبار الجاهلية صفة أو سمة قابلة للظهور في أي زمان وأي مكان، وبالتالي وفق هذا المفهوم، ليس شرطاً أن تكون الجاهلية هي تلك الفترة ما قبل ظهور الإسلام تحديداً، بل قد تكون وجدت في أزمنة قديمة رغم الحضارات البشرية التي ظهرت آنذاك، وربما تظهر تارة أخرى بعد الإسلام وختام الرسالات السماوية، بل قد تكون حاضرة الآن في عصر العلم والتقنية كما هو حال عصرنا، فلا شيء ينفي ذلك.

وقرن في بيوتكن

حين تتأمل آية الحجاب { وقرن في بيوتكنولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } (الأحزاب : 33) أي لا تكثرن الخروج متجمّلات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى الذين لا علم عندهم ولا دين – كما في تفسير السعدي – فقد تتساءل وأنت تقرأ الآية وفيها ذكرٌ للجاهلية الأولى، إن كانت هناك أو ستظهر جاهلية ثانية؟ وفي هذا اختلف المفسرون في تحديد فترة الجاهلية المقصودة أو الموصوفة بالأولى في الآية، ما بين قائل أنها الفترة ما بين نوح وإدريس عليهما السلام، وقائل ثان أنها الفترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

فيما بعض آخر ذهب للقول إن الجاهلية هي الفترة التي يرتكب فيها البشر الفواحش بدون تحرج. وقد رأيت نفسي تميل إلى الرأي الأخير أكثر من غيره. وعلى هذا يمكن القول بأن غالبية عصور البشر كانت جاهلية، ولم لا ؟ والتاريخ يسطر إلى يوم الناس هذا، الكثير مما يندى له الجبين، من موبقات وفواحش وجرائم، ارتكبها وما زال يرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان.       

ما يحدث اليوم هنا وهناك، على رغم أننا في قرن العلم وثورة الاتصالات والمعلومات والتقنيات، لا يختلف كثيراً عما كان يحدث في زمن أبي جهل وأبي لهب وعقبة بن معيط وأمية بن خلف وغيرهم من رموز الجهل والضلال في تلك الفترة الغارقة في الجاهلية، أو فترة قارون وهامان وفرعون والسامري، أو جالوت ومن قبلهم النمرود وآخرين..

حين يقتل الإنسان أخاه الإنسان، أو يسرقه بصورة وأخرى، أو يغتصب أهله وبيته وماله تحت أي شعار ومسمى، سواء فرداً كان هذا القاتل أم على هيئة حكومة أو منظمة أو غيرها، فإنما ذلك من أعمال وسلوكيات الجاهلية الأولى.

وحين تجد أستاذاً جامعياً أو طبيباً ماهراً أو مهندساً عليماً، يتبرك بحيوان ويعتبره إلهاً، أو يأتي من يعبد أوثاناً من دون الله، أو من ينكر وجود خالق وإله لهذا الكون أصلاً.. أفلا يدعوك ذلك المسلك لإطلاق صفة الجاهلية عليهم دون تردد؟ أليس كل هذا الخلل في المعتقد هو عميق الجاهلية؟

وحين تتسارع الخطى نحو نشر الفواحش والشذوذ وبرعاية دولية هنا وهناك، والتلاعب في الجينات وتحليل ما حرم الله، أفلا تعتبر كل تلك الأفعال مؤشرات على انتكاس عميق للبشرية، ربما تنذر بظهور ” الطاعـون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ” كما في الحديث الشريف؟ أليست تلك سلوكيات وأخلاق الجاهلية الأولى، وإن كانت في عصر المدنية والتقنية؟

وحين يختل الذوق والمنطق السليم الفطري، وتبتعد البشرية عن الدين الحق، فتتغير تبعاً لتلك المفاهيم وتضيع القيم الإنسانية، قيمة بعد أخرى في ظل اجتياح المادة على الفكر والوجدان الإنساني، حتى لا تجد تراحماً ولا تعاطفاً ولا إحساناً ولا أخوة ولا غيرها من تلك القيم الفطرية، أليس ذلك دلالة على تغلغل الجاهلية في أعماق النفوس البشرية، حتى وإن كانت تلك النفوس تحمل أعلى وأرقى الشهادات والمؤهلات العلمية؟

جاهلية حقيقية عصرية

دون كثير جدال، البشرية تعيش جاهلية حقيقية ربما أسوأ من جاهلية أبي لهب وأبي جهل وما قبلهما.. لأن الذي تغير واختلف الآن عن تلك الفترة، إنما بعض مظهريات وسلوكيات وتصرفات متطبعة بصور حديثة أو ما نسميها بالعصرية، وهي في حقيقتها جاهلية عمياء عميقة، تحتاج إلى ماسح عظيم ومغيّر لها كبير، كما فعل الإسلام تماماً في المرة الأولى بعد ظهوره على يد خاتم الأنبياء والمرسلين.

 البشرية تعيش جاهلية حقيقية بصور حديثة وعصرية، وإن غزت الفضاء وتعمقت في المحيطات وأركعت المخلوقات لمصالحها. ولك أن تنظر حولك هنا وهناك وتقارنها بما كانت عليه البشرية قبل ألف أو ألفين عام. لن تجد ذلك الفرق كبيراً، سوى أن الأولى كانت بالأبيض والأسود، واليوم بكافة الألوان، إن صح وجاز لنا التعبير.   

إننا نعيش الآن – كما يقول صاحب الظلال – ” فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى؛ وأخذ بها، أول من أخذ، أهل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- على طهارته ووضاءته ونظافته .

الآن نعيش جاهلية ثانية وقد تتوحش أكثر فأكثر، ولا أرى خلاصاً منها سوى بالعودة إلى الوراء 1400 عام، لتبدأ البشرية من جديد في تلمس خطاها نحو حياة إنسانية حقيقية، كما بدأها سيد المرسلين، ومن سار على دربه من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.