إن العين لتدمعُ، وإن القلب ليخشع في لحظة تأمل صادقة لما يحيط بنا من جمال الكون وروعة خلقه، يملأ القلوب بالعنفوان، يريحها بنسيم عليل، ينير الأبصار بزرقة السماء، ويقذف فينا السلام بسُحُبها البيضاء، ومروج هذه الأرض الخضراء. فمَن خلق ذلك؟ ومَن صوَّره؟ ومَن أبدعه؟

إنه الله – سبحانه وتعالى – ربّنا وربّ كل شيء، خالق هذا الكون والمبدع في صنعه، الذي أنعم علينا بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى ، ومن هذه النعم أنه أنزل الماء على هذه الأرض، فإذا نزل الماء صاحب ذلك النزول ظواهر عديدة، ومن هذه الظواهر التي تحصل في التربة الاهتزاز الذي يحصل لحبيبات التربة ومن ثم الانتفاخ .

قال تعالى: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج : 5].

وقال تعالى: { وَمِنْآيَاتِهِأَنَّكَتَرَىالْأَرْضَخَاشِعَةًفَإِذَاأَنزَلْنَاعَلَيْهَاالْمَاء اهْتَزَّتْوَرَبَتْإِنَّالَّذِيأَحْيَاهَالَمُحْيِيالْمَوْتَىإِنَّهُعَلَىكُلِّشَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصلت: 39 ].

بيَّن الله تعالى في هاتين الآيتين أثر الماء، وأهميته، لحياة الأرض وإنباتها من كل زوج بهيج، فالماء مذيب عام للمعادن التي تحتويها التربة، ووسط تدخل من خلاله المواد المذابة إلى النبات وتتحرك خلال أنسجته وتتكون الأرض من ثلاثة مكونات هي:

– مادة التربة الصلبة المكونة من المواد المعدنية والعضوية.

– محلول التربة المكون من مواد التربة الذائبة في الماء.

– الهواء المتخلل لحبيبات التربة ومساماتها.

وتشتمل المادة الصلبة للتربة على حبيبات ذات أحجام متباينة تتدرج من حبيبات خشنة ذات قطر (2) مم إلى حبيبات ناعمة جداً يصل قطرها إلى أقل من ميكرون. وهذه الحبيبات تتكون من صفائح معدنية متراصة بعضها فوق بعض ملتصقة في حالة سكونها وهي ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه: ” وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً”، وفي قوله ” خَاشِعَةً” وتحمل الحبيبة على سطحها شحنات كهربائية سالبة.

أ ـ الاهتزاز:

إذا نزل ماء المطر على التربة يحدث فيها الاهتزاز الدقيق الذي أشار إليه القرآن بقوله: { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ }، وذلك بسبب ما يأتي:

– تساقط قطرات المطر على حبيبات التربة فتنشأ فيها حركة آلية (ميكانيكية).

– حركة جزيئيات الماء (الحركة البراونية) إذ أن حبيبات التربة الموجودة في الوسط المائي تهتز بسبب حركة جزيئات الماء، وهذا الاهتزاز عملية خفية لا يمكن مشاهدتها بالعين المجردة

–  طرد الماء للهواء الموجود في الفراغات بين تلك الحبيبات، فيحدث اهتزازاً في حبيبات التربة، وكلما كانت الحبيبات دقيقة كانت الفراغات بينها أدق تعجز العين المجردة عن إدراكها وإدراك حركة الماء خلالها وما يحدثه الماء من اهتزاز لتلك الحبيبات.

– ظهور الشحنة الكهربائية على سطوح الحبيبات بسبب نزول المطر والذي بسبب عدم استقرارها وحدوث حركات اهتزازية لا يمكن سكونها إلا بعد تعادل هذه الشحنات.

ب ـ الربو:

عندما تهتز الصفائح الصغيرة الرقيقة المكونة لحبيبات التربة فإنها تتيح الفرصة لدخول الماء وأيونات العناصر الذائبة فيه إلى الشقوق السطحية بين الصفائح الرقيقة فتتباعد الصفائح وتربو الحبيبات وتنفخ بسبب خزن الماء بين صفائح الحبيبات، كما تحاط الحبيبة بأغلفة مائية ممسوكة بقوى الجذب (الكهروستاتيكي)([1])، وهكذا تمتلئ الفراغات بين الحبيبات، وبهذا تصنع حبيبات التربة خزانات مائية صغيرة تكون سبباً في انتفاخ التربة وزيادة حجمها وإمداد جذور النبات بالماء بعد انقطاع المطر.

جـ ـ إنبات النبات:

وبنزول ماء المطر وخزنه بين صفائح حبيبات التربة وعلى سطح الحبيبات نفسها يستفيد النبات من ذلك الماء خلال الفترة التي تلي نزول المطر فتبدأ البذور الجافة الموجودة في التربة بامتصاص الماء، والمواد المعدنية من الوسط المحيط بها وتتحرك العمليات الكيميائية الحيوية في البذور فتنبت وتنمو الدرنات والأبصال وتصبح مساحة سطحية كبيرة من الشعيرات الجذرية.. للنباتات معرضة لمحلول التربة مما يسهل عليها عملية امتصاص الماء والعناصر الغذائية.

كما تنشط ملايين الكائنات الحية الموجودة في التربة، فالفطريات والبكتريا تحول بقايا النباتات والحيوانات إلى مواد معدنية تمتصها النباتات عبر الجذور، وتقوم ديدان الأرض بحفر الأنفاق عبر التربة مفسحة المجال لدخول الهواء والماء خلال التربة فتصبح مخضرة بإنباتها من كل زوج بهيج.

وقد وصف القرآن الكريم هذه الحركة الدقيقة لحبيبات التربة والتي لم تشاهد إلا بالمجهر، كما وصف ما يحدث من نمو (ربو) لحبيبات التربة الصغيرة بسبب دخول الماء بين الصفائح المكونة لها، ودخوله بين الحبيبات وما ينتج عن ذلك من خزن طويل للماء فيكون سبباً لاستمرار إنبات النبات ونموه في وقت انقطاع المطر.

قال تعالى:{ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج : 5]. ومعنى الآية: ” وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً”: أي خاشعة مغبَّرة لا نبات فيها ولا خضرة، ” فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ” أي: تحركت بالنبات و”وَرَبَتْ” أي: ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها، و”وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ ” أي: صنف من أصناف النبات “بَهِيجٍ”، أي: يبهج الناظرين ويسر المتأملين.

لقد ذكر القرآن الكريم اهتزاز التربة وربوها بعد نزول الماء عليها، وهما عمليتان دقيقتان غير مشاهدتين ولا محسوستين ولا يمكن إدراكهما إلا من خلال استخدام المجهر، وعملية الاهتزاز والربو لحبيبات التربة يحصل بنزول المطر، وهذا الاهتزاز يمكن الماء بإذن الله من التخلل بين الصفائح المكونة للتربة والفراغات بين الحبيبات فتنتفخ الحبيبات ويزداد حجمها وتصبح مخازن للماء يستفيد منها النبات، حيث تتشرب البذور الموجودة في التربة الماء وتنبت، وتمتصه الشعيرات الجذرية للنبات فتنمو برحمة الله، وتفاصيل العلاقة بين اهتزاز حبيبات التربة وربوها وإنبات الأرض خفية لم يدركها الإنسان إلا بعد تقدم علم التربة وتطور أدواته العملية.

وإخبار القرآن الكريم بكل وضوح عن هذه الأسرار هو دليل قاطع على أنه مُنزل ممن يعلم السر في السماوات والأرض القائل: { قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [الفرقان: 6]، والذي وعدنا في كتابه أنه سيرينا آياته بقوله سبحانه: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل: 93]، وفي ذلك رسالة لأهل الإلحاد في هذا العالم.


مراجع البحث:

  1. د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت . لبنان، 2013م، ص 127: 129.

  2. عبد المجيد بن عزيز الزنداني، بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، دار الإيمان، القاهرة، الطبعة الأولى، ص 126 – 130 – 131.

  3. السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (تفسير السعدي)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ -2000 م ، ص 620.