لو سُئل الفيلسوف اليوم عن المسلك الذي يقودنا إلى التعرّف والبحث في عالم الفلسفة لأجابنا أن الطريق الأول نجده معنون بـ محبة الحكمة و الطريق الثاني عنوانه: القراءة، لأنّ القراءة صنعة العظماء والمفكرين، و سبيل للإرتياض الفكري والأخلاقي، فالكوجيتو الذي يُعين الإنسان على الوجود الفعلي في هذا العالم  هو “أنا أقرأ إذن أنا موجود”، بالقراءة يمكننا أن نفهم العالم و نكتشف حقيقة الإنسان وعالم الطفل والمرأة، فالقراءة ضرورة وواجب، أما عن نهج القراءة فيكون خروجها من القوة إلى الفعل، وذلك من قوة حب القراءة والإطلاع إلى إكتشاف المعاني والتفسح بين حقول العلوم إلى أن تتعوّد النفس ويحصل لها الفطنة وتزيد في التعقل والتبصّر، فترتقي الذات إلى رتبة من مراتب الروحانية، لأن النفس تعالت وتسامت عن عالم الكماليات والماديات وأصبح فعل القراءة عندها من المقاصد الضرورية في الحياة، لأن القراءة حفظ وتنمية للعقل والنفس، “ولا شكّ أن كل صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النفس أثر يُكسبها عقلا جديدا، تستعيد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف… إذ قدّمنا أنّ النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يُرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية، فيظنه العامّي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك، وما ذاك إلا لإجادته من ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية، مالا يعرفه البدوي، فلما إمتلأ الحضري من الصنائع وملكالتها وحسن تعليمها، ظّن كل من قصَّر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله، وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلّتها عن فطرته .. وإنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك فهو رونق الصنائع والتعليم، فإن لهما أثارا ترجع إلى النفس”[1].

تقودنا الفلسفة إلى القراءة العميقة، و لهذه القراءة آداب وقيم، فنجد من كتب بحثا في آداب القراءة الصحيحة للنص ( آداب المطالعة)، فكتب مجموعة قصيرة جدّا من التوصيات لقراءة النصوص العلمية استنادا إلى آداب البحث، صنّف مؤلف هذا النصّ القصير العبارات النصية على أنها إمّا تعريف من نوع ما أو زعم افتراضي، فإذا كانت تعريفا، فإنه يوصي القارئ بالتأمل من خلال الأسئلة الأربعة التالية حول المفهوم العلمي لـ الحدّ: هل الحد جامع أو غير جامع؟ هل هو دائري؟ هل يستخدم مفردات معروفة، أكثر من المعرّف؟ هل يستخدم مفردات مجازية أو غير واضحة؟ إذا كانت إجابة السؤال الأخير بالإيجاب، فيجب  فحص المقدمات والحجة، وقد أمر القارئ أيضا بالنظر في إمكانية وجود حجّة مُضادّة تُثبت نتيجة مضادة، إذا كانت الفقرة قيد التحقيق دعوى إفتراضية، فيجب على القارئ أن يتأمل فيما إذا كان يمكن إثارة أيّ اعتراض جدلي ضدها…كان يعتقد أن هناك مجموعة من المهارات الضرورية التي يجب اكتسابها أولا، مما أسمماه “علوم الآلة، وبالنسبة له تضمنت هذه  المجموعة من الحقول بناءَ الجملة، والمنطق، والجدل، والمعاني، والبلاغة… يسمي الورويهب طريقة أحمد ب”القراءة العميقة”، وهو يعتقد أنها سرعان ما تأصّلت في المدارس العثمانية، لا سيما في المنطق وغيره من العلوم العقلية”[2].

فمهمة الفلسفة أنها تُثوّر العقول على التجوال في سوق النصوص أين تٌجلب بضائع العلوم والصنائعّ*، ولا تختزل القراءة الفلسفية على مجال واحد بل الذي يختار الفلسفة سيجد ذاته بين نصوص الأدب، وعلم الإجتماع، وعلم النفس، والطب، والإقتصاد، والدين، والعلوم السياسية،(نصوص فلسفية غربية: إدغار موران، هاربرت ماركوز، إيريك فروم، حنة أرندت، ماكس فيبر، جيل دولوز، جيل ليبوفيتسكي…الخ، ونصوص فلسفية من التراث الإسلامي: ابن حزم الأندلسي، ابن عربي، أبو حامد الغزّالي، ابن قيم الجوزية، أبو الحسن العامري..)، وهنا تكمن قيمة التفلسف في رسم معالم الصحة الفكرية والتكامل المعرفي، فالقراءة هي المقصد الأولي لخوض غمار التفلسف ونهج مسالك التكامل المعرفي، يستخدم مصطلح التكامل المعرفي في كثير من الأحيان “ليعني أن شخصا ما موسوعي في معرفته وثقافته لأنه يلم بكثير من العلوم ، ولو كان إلمامه من باب الثقافة العامة وليس المعرفة التخصصية  وفي هذا السياق يجرى التنويه ببعض العلماء المسلمين الذين اتصفوا بالتكامل المعرفي بمعنى الموسوعية في اللغة ،والأدب وعلوم القرآن ،وعلوم الحديث  والتاريخ  وربما الفلك أو الطب أو الرياضيات فـ الإمام الطبري مثلا هو مفسر ومؤرخ وفقيه وعالم لغة وشعر و ابن خلدون في الأساس مغامر سياسي لكنه عُرف بأنه مؤرخ وقاضي القضاة المالكية بمصر وكثيرون ينسبون له الإبداع في العلوم الاجتماعية “([3]) وابن سينا أيضا فيلسوف وطبيب وابن تيمية كتب في التصوف والفقه والسنة وغيرهم من العلماء المسلمين الذين أبدعوا أكثر من علم واحد .

و التكامل المعرفي لا يمكن أن نختزله في الحقل المعرفي فقط “وإنما هو عملية نفسية تربوية تستهدف تحرير العقل المسلم وتربي الوجدان المسلم وتنمي المسلم للإنجاز والإبداع والإصلاح “[4] ويمدنا الدكتور فتحي حسن الملكاوي المعادلة المنهجية الإسلامية في السلوك التي تقتضي التكامل في التعامل المنهجي مع عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء، فالحديث عن الإنسان جسدا وروحا حديثا في التكامل المعرفي والحديث عن الجمع والربط بين العقل والنقل هو حديث في جماع العلم ،أيضا التكامل بين الإنسان والعلم ، وبين الإنسان والأخلاق، وتكامل بين الدين والدنيا ، والعقل والواقع، وتكامل النظر مع الفعل، هذا ما يجعل التكامل ضرورة من ضروريات العلم ومقتضياته المنهجية وسبيلا لتكوثر العلوم ليبقى العالم أو المتعلم يتقلب بين العلوم، تارة في عالم الفكر وتارة في عالم الأخلاق و الدين  والسياسة وهكذا .. .

من ثمرات القراءة التكاملية نجد تكامل الفكر والعمل، يقرر الفيلسوف الموسوعي أبو الحسن العامري بالعلاقة التكاملية بين العلم والعمل، ولا يمكن الفصل بينهما ويفنّد آراء الفلاسفة والباطنية الذين قالوا بنظرية العلم للعلم أي أن العلم يجب أن يطلب لذاته، بغض النظر عما إذا كان يُحقق أولا يحقق منافع عملية للفرد والمجتمع وعمارة البلاد، بل العلم يُطلب من أجل العمل به والاستفادة من العلم هو عمارة للقلب ومجالسة العلماء والحكماء هي تجلية للأبصار، يُعرّف العلم في كتابه الإعلام بمناقب الإسلام “العلم مبدأ للعمل، والعمل تمام للعلم ولا يُرغب في العلوم الفاضلة إلا لأجل الأعمال الصالحة ولو زيّن الله تعالى الجبلة البشرية مقصورة على تحصيل العلم دون تقويم العمل لكانت القوة العملية إما فضلا زائدا، وإما تبعا عارضا ولو أنها كانت كذلك لما كان عدمها ليُخل في عمارة البلاد ، وسياسة العباد “[5]، كما يؤكد العامري أن العمل الأحكم هو ما يكون الاعتقاد له بعد التهذيب مثل القول الأحكم هو ما يكون إطلاقه بعد الروية “ويقول أيضا “ولن يبلغ ألف رجل من إصلاح رجل واحد بحسن القول دون حسن العمل “([6]) لذا الجمع بين العلم والعمل سبيل للمعرفة المتكاملة.

و يكون التكامل بين العلم والعمل عند العامري كرؤية للعالم وللعلوم، بما أن من مهام العقل الإنساني هو معرفة الحق” ويعمل بما يوافق الحق فمن الواجب أن يكون أكمل الناس أغزرهم عرفانا للحق وأقدرهم على العمل بما يوافق الحق وأرذل الناس أنزرهم معرفة بالحق وأعجزهم عن العمل بما يوافق “[7]”وليس يشك أن نسبة العلم إلى العمل مضاهية لنسبة العلة إلى المعلول أو لنسبة البدء إلى التمام ،والشيء متى فسدت علّته واختل بدؤه لم يلحقه الصلاح أبدا ،والشيء إذا بطل تمامه فقد لحق الخلل بدؤه لا محالة “[8]

لتمحيص أقوال العامري من أجل الإبانة عن العلاقة التكاملية بين العلم والعمل فمن الواجب أن ننوه  أن العامري يدعوا إلى الارتياض لمعيار العمل في فلسفته و ينتقد فلاسفة اليونان أو الرؤية اليونانية للعالم  في تفضيل العلم واحتقار العمل “فالفيلسوف اليوناني قد رفع من شأن القول لظهور دلالته على العقل حتى اتخذه معيارا يفرق به بين الإنسان والحيوان فقال الإنسان حيوان ناطق أما العالم المسلم فعلى العكس من ذلك ،قد رفع من شأن الفعل لظهور دلالته على الخُلق حتى اتخذه معيارا يفرق به بين الإنسان  وغيره فقال الإنسان حي عامل “[9]، أراد العامري أن يبيّن أن الحضارة الإسلامية هي حضارة فعل لا حضارة قول، ويقسم العلم إلى العلم الملي، و العلم الحكمي “الملي والوصول إليه عن طريق الوحي وهو مقتبس من جهة الأنبياء والآخر الحكمي وهو المستخرج من قضية العقل واقتباسه من جهة الحكماء “[10]، والعلوم الملية فتفتنُ إلى ثلاث صناعات إحداها” الحسية وهي صناعة المحدثين و الثانية عقلية :وهي صناعة المتكلمين وثالثة: مشتركة بين الحس والعقل :وهي صناعة الفقهاء ثم صناعة اللغة تتنزل من الصناعات الثلاث منزلة الآلة المعينة عليها ،أما العلوم الحكمية فهي تفتنُ إلى صناعات ثلاث إحداهما حسية وهي صناعة الطبيعيين والثانية عقلية وهي صناعة الإلهيين والثالثة مشتركة بين الحس والعقل وهي صناعة الرياضيين “[11]، ليكون المنطق الآلة المعينة لهذه العلوم الثلاث، وهذا التقسيم الثنائي للعلوم  حسب العامري  لا يدل على خصخصة العقل وتجزئته لدراسة كل من العلمين، بل يسوغ العامري فضائل العلوم الملية والحكمية ليقرر إلى تواشج العلمين  لكونهما روح العلم.

ممخطط القراءة الإبداعية والتكاملية

يٌفصح  العامري أن هناك من طعن في علوم الحكمة على أنها جوهرها العقل إذن هي مضادة للعلوم الدينية لذا مَنْ انغمس فيها نسي الدنيا والآخرة “قالوا وليست هي إلا ألفاظ هائلة ،وألقاب مزخرفة زُينت بمعان ملفقة  لينخدع بها الجاهل  الغرّ ،ويولع بها المتطرف الغُمر “[12]، لكن بحسب فكر العامري أن هذه العلوم لن تتم إلا بامتزاج الدين  ليرد على كل الفرق الحشوية التي قطعت حبل التواصل  بين الدين  والحكمة العقلية بقوله”و ليس الأمر كذلك ،بل توجد أصولها وفروعها عقائد موافقة للعقل الصريح ،ومؤيدة بالبرهان الصحيح ، حسب ما توجد العلوم الملية ومعلوم أن الذي حققه البرهان وأوجبه العقل ،لن يكون بينه وبين ما يوجبه الدين الحق مدافعة ولا عناد”[13].

و في سبيل إنتهاج القراءة التكاملية والإبداعية يكمن التحاور بين النصوص العلمية والفلسفية، وأيضا تجديد الرؤية للعالم، لأن الفكر في مرحلة القراءة يرقى إلى الوعي بالذات والوعي بالعيش، والوعي بالآخر، وبذلك يكون “الوعي أشبه بمنارة تمكّن العقل من النظر إلى ذاته من وجهة نظر أعلى من دون أن يتوقف، بالرغم من ذلك عن البقاء داخل ذاته، غير أن الوعي خلافا للمنارة، ليس ثابتا ومستقرا البتة، إنه حلقة(دماغية ونفسية) مُنتجة ذاتيا، تشكل في ذاتها نسقا فوقيا عال وإن كان داخل الجهاز الدماغي العقلي، والذي يمكّن من الوصف والتصحيح والتطوير الذاتيين لمعرفة وفكر ونفسية وسلوك الكائن الواعي”[14].

فمن المقاصد الضرورية في فعل القراءة التكاملية، لابد ربط القراءة بمنهج الإرتياض الأخلاقي، فالقراءة قوة فعّالة في تغيير النفوس، فقد تكون  الفكرة أو الكلمة أو الحكمة سببا قي إثارة العواصف في النفوس، فأول كلمة نزلت تخاطب قلب وعقل الإنسان هي كلمة  “إقرأ “، التي نقلته من عبادة أصنام الجهل والركود الفكري إلى معرفة الله  لإشراق قلب وعقل الإنسان بأنوار العلم والتربية الروحية ، وقد استعلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي وهو في حالة تحنثه في غار حراء وقد بلغ الأربعين من عمره حيث جاءه الملك فقال: اقرأ، فقال ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني  حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم } [ 1-5 العلق]،  فالقراءة هي السراج المنير لتحضّر الإنسان وتخلّقه، والقراءة المقصودة هنا هي التي توصلنا أولا لمعرفة الله وتحيي فينا التوتر الأخلاقي لتهذيب النفس وإصلاحها، أما إن كانت عكس ذلك أي قراءة إختزالية تجول بنا في عالم الأفكار وتُسيّب عالم النفوس فإنها  بهذا المسلك لن يكون لها أثر وقيمة عملية في الحياة، “وبيان ذلك أن صفة القراءة التي اختص بها الإنسان إن لم تُوصل هي إلى الربط والاتصال فهي قراءة قد انحصرت في العالم الحسي، من غير أن تترقى، لكي تستنبط المعاني الروحية الملازمة لهذا الوجود الحسي، لهذا كان الإنسان دوما مخلوقا قارئا، يتجدد بالقراءة، ويتسع علمه بالقراءة، ويستقيم سلوكه بالقراءة ويصل إلى الله بالقراءة، وإذا تعطلت هذه الوظيفة الجوهرية، أي وظيفة القراءة، فإن المآل هو إنحسار الإدراك والمعرفة، وتضييق الوجود الكوني والإنساني، والدخول في ظلام نسيان مشاهدة الملكوت الأعلى، وفقدان القوة على مخالفة الشهوات، وقلة التفكر في يوم الفصل والجزاء، ولهذه الترابطية الوثيقة بين القراءة ومعرفة الله، انتقد ان عربي الفلاسفة عندما أخطؤوا في نقطة الإنطلاق لما كان بصدد تحليل مفهوم الفلسفة باعتبارها محبة للحكمة، فلو طلبوا الحكمة من الله لا من طريق الفكر أصابوا في كل شيء”[16].

ومن هنا، فإنّ مركز نهوض الثورات الفكرية والعلمية والأخلاقية هي القراءة المنفتحة والإبداعية التي تُحيي القلوب وتشحذ العقول والهمم إلى آفاق الإبداع والإنجاز، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، فالكلمة أو الفكرة كانت ولا تزال سبب للتحرّر والنهوض واليقظة، “هكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت موتاها، ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعات ما آتت أُكلها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتهم إلى أسلوب في الحياة جديد، وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان و زمان، وكشفت عن الشعوب الإسلامية غطاءها، ودفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر[17]

حريّ بنا بتر القراءة الحرفية التي شوّهت مفاهيم التعلّم و مسالك التفلسف، فالقراءة التكاملية تقودنا إلى التحاور  والمساءلة  والتحقيق بين النصوص لا إلى التحيز والتعصّب، فالفيلسوف الموسوعي يطوف بين النصوص  ويتغذى من رحيق العلوم، ويربط العلاقة بين الفكر والواقع و بين إشكالات الأمس واليوم، ويسائل ويحاور وينقد، ويبدع في فنون التفكير، دون الإرتماء في فكر محدد، هكذا كان منهج المفكرين المبدعين، نجد مالك بن نبي مفكر منفتح على قراءة النصوص و كذالك يُبيّن مسالك الفكرة المقتبسة وعن مدى نجاعتها وفاعليتها في الواقع، فقرأ  نصوص ديكارت، وكانط، ونيتشه، وأيضا نصوص أبي حامد الغزالي، وابن خلدون،…وغيرهم، فلم يبقى في دائرة التراث الإسلامي، بل إستطاع أن يركب بين النصوص التراثية وبين نصوص الفلسفة الغربية، لأن كان هدفه هو البحث عن الفكرة الفاعلة في الحياة التي تعالج إشكالات الواقع، من أقوال مالك بن نبي في مذكراته وهو يوجّه الطالب “خالدي” إلى فلسفة نيتشه” فتقرر أن نضيف خالدي إلى قائمة الشبان الذي يجب إنقاذهم من التيه الفكري، ونظرا لتكوينه وحرصه على الاطلاع والمطالعات، رأيت أن يكون المنقذ هو نيتشه ومن الغد في لقاء اتفقنا أو تآمرنا عليه، قدمت لخالدي نسخة من كتاب الفيلسوف الألماني، أظنها أنها نسخة من كتاب هكذا تكلم زرادشت، وهكذا رجعت نعجة تائهة، ردها نيتشه إلى القطيع الإصلاحي”[18].

ومن هنا يكمن أن نقول أنّ الذي يبقى أسير القراءة الحرفية والإتباعية  فإنه يقرأ دون تبصّر وتمحيص و لا يتفنن في تركيب النصوص، ولا يملك حصانة فكرية و أمن فكري، لأنه يتبّع دون منهج وخطاطة فكرية،”والخلل في عالم الأفكار، إما ينشأ من الخطأ في تحديد المفاهيم أو في عدم ربط الأفكار بالطرائق الصحيحة…فمثل هذه الأفكار تكبل المبادرات والجهود، وهي ليست خاصة بمجتمع، وكم كان بعض الأفكار المميتة مستوليا على كثير من المجتمعات حتى عاقها عن كثير من التقدم”[19].