كأي قارئ لمرحلة ظهور الحَجاج الثقفي على مسرح الأحداث السياسية في العصر الأموي، يستوقفني نوعان من الكتابة التاريخية ،في رصدهما للمسار الذي قطعه منذ خروجه من ثقيف حتى وفاته. أولاهما ذات منحى عاطفي، تصور الحَجاج كنبت شيطاني ظهر فجأة ليستعرض دمويته، ويُزهق في سبيل استقرار الدولة الأموية، أرواح الآلاف من المسلمين. وبين الأسطر تتخفى رغبة لاستمالة القارئ، وضمه إلى قائمة المؤيدين للقراءة الواحدة والحكم الواحد، دون مراجعة للمحاضر أو شهادة الشهود!

في حين تبدو الكتابة الثانية أقرب للذرائعية، من حيث اعتبارها الحَجّاج مجرد أداة تعكس طبيعة القبضة الأموية. وأن محاكمته لا تصح بمعزل عن الظرفية السياسية التي كانت تقتضي توحيد الدولة وإخماد الفتن بكل وسيلة. ولو لم يفعلها الحجاج لفعلها غيره، فلا يجدر بنا توجيه أصبع الاتهام للبرذعة، وتبرئة ساحة الحمار!

كانت ولادة الدولة الأموية عسيرة بالنظر إلى الفجوة النفسية التي خلّفتها منذ ظهورها، بدءا بالاحتدام بين علي ومعاوية، وصولا إلى قتل عدد من كبار الصالحين. وفي محيط مفعم بعدم القبول لخلافتهم كان أقصى جهد سياسي يمكن تحقيقه هو تطييب الخواطر، وتهدئة النفوس بالأموال والمناصب، أو على الأقل بالتغاضي عن مساحة من الاحتجاج والتعبير عن الرأي وعدم اللجوء للقوة إلا عند الضرورة.

تلك كانت سياسة معاوية قبل أن تأخذ الأحداث مجرى آخر بعد أن قويت شوكة الخوارج، وألقت فاجعة كربلاء بظلالها على المشهد فزادته قتامة، وجددت في النفوس بغضها لبني أمية. فكان أن ورث عبد الملك بن مروان وضعا موسوما بالاضطراب والانفلات والتجزئة. وارتأى في ظل التهديد المتواصل أن يُحكم قبضته على السيف كخيار لا رجعة فيه، وقد لخص منهجه بالقول:” إني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، ولست بالخليفة المستضعف- يقصد عثمان- ولا المداهن- يقصد معاوية. أيها الناس، إنا نحتمل لكم كل اللغوبة  مالم يكن عقد راية ولا وثوب على منبر، هذا عمرو بن سعيد وحقه حقه، وقرابته قرابته، قال برأسه هكذا، فقلنا بسيفنا هكذا”.

“من قال برأسه هكذا، قلنا بسيفنا هكذا” عبارة تقطع حتما مع سياسة الأناة وطول البال، والسماح للزمن بأن يفكك بخبرته بعض معاقل الفتن دون إراقة دم. ولاشك أن الحجاج التقطها وأضفى عليها تأويله الخاص حين التحق بسلك الشرطة تحت إمرة الوزير روح بن زنباع. إذ تحكي المصادر أن الجند استخفوا به حين كلفه روح بوضع نظام يضبط حركة انتقالهم ونزولهم مع موكب الخليفة، ولم يأبهوا لمهمته الجديدة، فأمر بجلدهم بالسياط، والطواف بهم حول المعسكر، ثم إحراق خيامهم. ولما وبخه الخليفة رد قائلا: ” أنت والله فعلتَ ذلك يا أمير المؤمنين، فإن يدي يدك وسوطي سوطك”.

استمد الحجاج دمويته وعنفه الرمزي والجسدي من الخطوط العامة التي حددها عبد الملك لإدارة شؤون البلاد : السيف ثم السيف حتى يُقطع دابر الخلاف في كل أرجاء الدولة. وما يدفع لاعتماد هذه الفرضية أن تصرفات الحجاج ،التي كانت بالغة القسوة والاستهانة بالدماء، قوبلت من طرف عبد الملك بالتوبيخ والإهانة دون اتخاذ إجراء فعلي يحد من سطوته. بل يمكن الزعم أنها شتائم أجاد الحجاج قراءتها فواصَل بطشه غير عابئ بها. فعلى سبيل المثال حين بطش بأسرى معاركه مع ابن الأشعث، وصله توبيخ من الخليفة هذا نصه:” يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب، والله لقد هممت أن أركلك برجلي ركلة تهوي بها في نار جهنم. قاتلك الله أخَيْفش العينين، أصكّ الرجلين، أسود الجاعرتين..” هكذا اكتفى عبد الملك بإهانة الحجاج وتذكيره بصفاته الجسمية الذميمة، دون أن يتخذ إجراء يحقن دماء المسلمين، فكان من الطبيعي أن يُمعن الحجاج في إذلال الخصوم وترويع الناس.

إلى جانب الدموية والاستخفاف بالأرواح تنهض مفارقة ثانية، تتعلق بالحمولة الدينية لخطبه وتصرفاته. فالحجاج كانت له مقدرة خطابية بارزة، والدارسون لخطبه كشفوا عن احتفاء ظاهر بالصور البيانية والبلاغية، وقدرة على تبليغ المعنى في أقصر عبارة، مع ميل للإقناع بالاقتباس من القرآن أو الاستشهاد بأشعار منتقاة بعناية. لكن خلف تلك البلاغة تكمن قراءة خاصة للنص الديني، اعتمدها الحجاج تارة لتبرير سفكه للدماء، وتارة أخرى لمجابهة خصومه وتحييد أي تأثير لهم على عامة الناس.

من أغرب ما نقل عن الحجاج في هذا الصدد: قياس حادثة رجمه للكعبة وقضائه على حركة ابن الزبير بقصة إخراج آدم من الجنة. ولا يسع المرء هنا إلا أن يبدي استغرابه ممن رأوا في هذا القياس شاهدا على براعته؛ فهل كان الحجاج مؤمنا حقا بأن المعارضة السياسية هي مخالفة شرعية تستوجب القصاص، أم هو التناغم مع عقيدة الجبر التي كانت تقرن سياسة بني أمية بالمشيئة الإلهية لتُلزم الناس بالطاعة؟

لما قُتل ابن الزبير تعالى البكاء في أرجاء مكة، فصعد الحجاج المنبر وقال: ” ألا إن ابن الزبير كان من أحبار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها، وخلع طاعة الله، واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانعا للعصاة لمنع آدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيده وأسجد له ملائكته، وأباحه جنته، فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة“.

لم تكن الغاية من قياسه هذا هي تجريد ابن الزبير من مناقبه فحسب، وإنما استبعاد فضلاء الأمة وصالحيها من المشهد السياسي، كما أفصحت عن ذلك مواقفه فيما بعد. أو إن شئت فقل: عزل النخبة عن التصدي لمشكلات المجتمع وهمومه، خاصة تلك التي يتداخل فيها الاجتماعي والديني بالسياسي، وأن لا حرمة لأي منهم في حال الاستمرار في المعارضة والتدخل في شؤون الحكم؛ بل بلغ الأمر حد معاقبة من بدا له أنهم لا يحبون بني أمية، أو آثروا اعتزال الخلاف منذ مقتل عثمان رضي الله عنه؛ فشهدت فترة ولايته بمكة والمدينة جرأة غير مسبوقة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخفافا بمكانتهم؛ كأنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الله بن جابر رضي الله عنهم.

أما المفارقة الثالثة فتكشف عنها سياسته تجاه أهل العراق، منذ إلقائه خطبته الشهيرة التي عرض من خلالها مشروعه الدموي لإخماد الفتن، وتأديب المنشقين والمعارضين للنظام الحاكم. فلم يكتف الحجاج بالوعيد والتهديد وإظهار الشدة والحزم، وإنما تعمد الإهانة والقذف الذي لم يتحمله أشراف الكوفة والبصرة؛ وكأنه يخمد فتنة بسيفه ليوقظ أخرى بلسانه. و لم يكن إذلاله لأهل العراق ينم عن أية حنكة سياسية أو إدارية بقدر ما كشف عن رغبة في استئصال بلد بأكمله. هكذا اندلعت ثورة ابن الجارود كرد فعل على رفض الحجاج الزيادة في مرتبات الجند، وهي زيادة أقرّها الوالي السابق بشر بن مروان. وكان الحجاج في غنى عن هذه الثورة التي كادت أن تقضي عليه، لمجرد أنه آثر التضحية بالرجال على بذل المال.

كما كان لسياسة الشدة التي صارت مبدأ دائما حتى في علاقته مع قادة جيشه، آثارها الوخيمة التي أفضت إلى أخطر تمرد للجيش قاده ابن الأشعث. فهذا القائد الذي اختاره الحجاج ليقود حملة ضد ملك سجستان إثر نقضه لعهد الصلح مع المسلمين، آثر أن يتبع خطة محكمة، يتوغل من خلالها في بلاد العدو دون أن يُعرض حياة جنوده للخطر. فلما قرر التوقف في مرحلة معينة وأرسل للحجاج يخبره بصنيعه، وجّه له هذا الأخير تقريعا شديدا، ووصفه بالجبن والضعف. فجمع ابن الأشعث أشراف الكوفة وقادة الجند، وشن حملة تمرد وعصيان على الدولة استمرت مئة يوم، وسالت خلالها دماء كثيرة بسبب غلظة الحجاج التي أفسدت قلوب الناس.

يتفق المؤرخون على أن الحجاج برهن على ولاء شديد لعبد الملك بن مروان، وإخلاص انتزع إعجاب معارضيه. إلا أن العسف والقهر الذي يصلح في ظروف الحرب خاصة، لا ينبغي أن يتحول إلى سياسة دائمة. ومن المستحيل أن يتحقق الأمن والاستقرار في ظل استفزاز يومي متواصل، وإذلال مستمر لا يرى في المواطنين سوى “أهل الشقاق والنفاق”.

إن تكريس التدين العاجز وتكميم الأفواه، وعدم السماح بتعددية حيوية تضمن التوازن وتؤمن بالاختلاف، إضافة إلى هدر الكرامة الإنسانية بدعوى الوحدة والاستقرار، كلها عوامل تشل قدرة أي نظام على البقاء.

مهما تجدد السير على خطى الحجاج سيظل السؤال المحير قائما: هل تملك القوة مؤهلات القيادة؟

وكلما تبددت الحيرة لاحت بوادر الدولة الراشدة !