في خضم الغليان الذي أثارته حادثة الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم. ورغم أن الأمر يتعلق بسلوك دارج يغذيه التعصب لا بانفعال طارئ، توزع الموقف في الشارع بين خطابين:

أحدهما يرى وجوب النصرة الحازمة والمنفعلة، بكل ما تحيل عليه من احتجاج ومقاطعة، وبيانات استنكار ورد على العين بالعين والسن بالسن.

أما الآخر فيستعيد أخلاقيات النصرة الغائبة عن السلوك اليومي للمسلم المعاصر، ويدعو إلى إنضاج شروطها في حركة المجتمع قبل تصريفها خارجه. فالذي لا ينصر نبيه باتباع سنته لا يمكنه أن يحمل الآخر على احترامها !

لا شك أن لكلا الخطابين جانب من الصواب، وبضم أولهما إلى الثاني تكتمل الصورة، ويثار مجددا سؤال القدوة في واقعنا الإسلامي تحت يافطة: عن أي نبي ندافع ؟

حين اختتم الشيخ محمد الغزالي كتابه (فقه السيرة) ،ألمح إلى بعض ما نعاينه اليوم من هفوات النصرة بقوله: “قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة. وهذا خطأ بالغ، إنك لن تفقه السيرة حقا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة. وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبي الإسلام.”

غير أن الخطأ البالغ صار اليوم تمثلا سائدا ومسلما به حول السيرة النبوية. وتم توجيه الاهتمام إلى الحدث كمقطع تاريخي يُحرك المشاعر، ويستقر في الوجدان دون أي امتداد يلامس السلوك. وعززت المناهج التعليمية ذاك الحضور الباهت، فنشأ جيل لا يعرف عن نبيه سوى بطاقة تعريف، وشيء من معاناته مع أصحابه في مكة، بالإضافة إلى صياغة ملحمية للغزوات ترتبط فيها النصرة بالسيف !

يقودنا تتبع خيط أحداث السيرة، منذ الجهر بالدعوة حتى بناء الدولة، إلى رصد مواقف عديدة للصحابة رضوان الله عليهم، تسهم في ترسيخ ما يمكن أن نسميه ب”التربية على النصرة”، وتنقل المسلم المعاصر من ظلال التاريخ إلى حيوية المنهج ودفئه. وبذلك يكون للشحنة العاطفية أثرها على الفكر والسلوك، فتكتسب النصرة حقيقتها والاتباع معناه.

أبدى بعض الصحابة فور إسلامهم نصرة التحدي لجبهة الشرك، بنطق الشهادة أمام ملأ منهم أو تلاوة القرآن. فكان تحمل الأذى البدني والاستبعاد القبلي نصرة تستفز عوائد المجتمع الوثني، وتؤسس لخيار ثان أمام إنسان الرق والعصبية والحتميات الزائفة.

ثم كانت الهجرة، فوجدت الجماعة المسلمة نفسها أمام امتحان ثان للنصرة: نصرة التحرر من سلطان التراب، وقيود المال والبنين. وارتبط الإيمان الحق بشرط الاقتلاع من تربة متفسخة تعيق بناء كيان جديد.

وبعد وضع لبنات الاستقرار في يثرب، برزت نصرة تغليب الدين على القرابة، ومواجهة خِلان الأمس القريب في ساحات القتال. فكان امتحانا شاقا ومؤلما حين وضع المسلم بين خيار نصرته للدين أو التخاذل أمام روابط الدم والمصاهرة والنسب.

أما حين قويت شوكة المسلمين، واكتست الدعوة حضورها العالمي، فإن واجب النصرة تمثل في مواصلة التبليغ، والحذر من مغبة الركون إلى متاع الحياة الدنيا وزينتها. وتجلى هذا المعنى بشكل وثيق في غزوة تبوك، وما ترتب عنها من دروس التخاذل والتخلف المبرر وغير المبرر! 

ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على محجة بيضاء، ودلّهم على مواطن الخير و الرشاد التي إن ساروا عليها فلن يضلوا بعده. فلما ولي الأمرَ خلفاؤُه الراشدون كان سلوكهم في الحكم تعبيرا عن النصرة، سواء في التمسك بالمبدأ، أو في السير على المنهج، أو عبر تنفيذ الوصايا التي تضبط الحركة والسلوك بمؤشر الكتاب والسنة.

وطوال القرون الثلاثة التي وُصفت بالخيرية، تعددت وتنوعت أشكال النصرة ، بدءا بتدوين السنة النبوية وما أحدثته من حركة ثقافية غير مسبوقة، وصولا إلى الفتوحات التي امتدت بفعلها رسالة التوحيد إلى شتى بقاع الأرض وبدرجات متفاوتة، لتغذي عرق الحضارة في أكثر من مكان.

من البديهي إذن أن تثير النصرة بكل مظاهرها كوامن الحقد في نفوس أعداء الأمة، فيبادروا ،في محطات عديدة من تاريخ احتكاك الشرق بالغرب، إلى الإساءة لنبي الأمة، والتشكيك في صدق رسالته، وإثارة الشبهات حول حياته الخاصة وتوجيهاته لأتباعه. فكانت كل حملة للإساءة، وكل كتاب مثير للأباطيل يُقابَلان بمناظرات وكتابات تُحرك لواعج المحبة وصدق الاتباع، وتقرع الشبهة بالحجة والدليل.

لكن مع تبني الدول الإسلامية لنظم التعليم الحديثة، وبدء الانشطار بين حقول المعرفة، حدث نوع من التراجع عن خطوط النصرة التي طورها علماء الأمة، واكتفى المسلم المعاصر بالتعلق الوجداني بنبوة منزوعة من سياقها الاجتماعي والتربوي والحضاري.

لنا أن نتساءل عن حقيقة تلك المحبة في غياب درس الشمائل المحمدية عن حياتنا الأسرية.

ماذا يعرف صغارنا عن تواضعه صلى الله عليه وسلم، وعطفه على اليتيم والمسكين و الأرملة؟

هل نجحنا في تفعيل القدوة المحمدية أمام النماذج اللامتناهية التي تدفع بصغارنا إلى جحر الضب منذ مقتبل العمر؟

كيف ندافع عن الهوية والثوابت والخصوصية بمعزل عن تشرب المصادر الأصيلة ،التي أعز الله بها المسلمين كما أكد على ذلك الفاروق رضي الله عنه؟

هي أسئلة تستحثنا على طرحها تلك الطبيعة البركانية للرد على حملات الإساءة للرموز، و المس بمشاعرنا و ثوابتنا. طبيعة تقذف الحمم لتخمد بعد فترة وجيزة، دون أن تؤسس لندّية التعامل، وفرض الاحترام بعيدا عن أشكال التبعية والتخويف بذريعة الإرهاب والكراهية.

في معرض تأسيسه للمفارقة البَيّنة بين الشرع المحمدي وشرائع مَن قبله من الأنبياء، يؤكد العلّامة سيد سليمان الندوي أن أهم ركائزها أنها دلت الإنسان على مكانته بين سائر المخلوقات. فموقفه من العالم يجب أن يكون موقف السيد الكريم المتوج بتاج الخلافة الإلهية، والمكلل بإكليل الجلال والعظمة. وهو نقطة دائرة العالم، والغاية من خلقه، ولأجله جُعت الدنيا. وبالتالي فإن كل منظومة تَحن إلى استعباد البشر والهيمنة على أبدانهم وأرواحهم، لابد أن تستهدف هذا الشرع وتلك القيم، وأن تناصب حاملها العداء.

إن جيلنا الناشئ يفتقر إلى تربية على النصرة. ومجتمعاتنا في مسيس الحاجة إلى ثقافة للنصرة، يُثمر فيها الانفعال إرادة التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في حركته ومنهج حياته ،وتفاعله مع الأحياء والأشياء.

 بذلك أمرنا القرآن الكريم..

 ولذلك تسوقنا مجريات الأحداث ومتغيرات العالم من حولنا، شئنا.. أم أبينا !