لطالما يثور الجدل حول المعتزلة، ويرى البعض في أفكارهم نموذجًا للعقلانية المطلوبة المتصالحة مع الحداثة والمتفاعلة مع قضايا العصر! وذلك من خلال الاستدلال بموقفهم من تقديم العقل في ترتيب الأدلة، ومن مذهبهم في التحسين والتقبيح العقليين.

فما حقيقة ذلك؟ وهل فعلاً يقدّم المعتزلة العقل على النقل في ترتيبهم الأدلة؛ وإذا كان، فما وجه هذا التقديم؟ وما حقيقة مذهبهم في التحسين والتقبيح العقليين؟

بدايةً، لا بد أن نشير إلى هذا الحضور الكبير الذي نالته المعتزلة في الكتابات الحداثية، التي رأت فيهم سندًا ودعمًا في القول بإعلاء العقل.. فحرصت هذه الكتابات على أن تمتد بِنَسَبِها الفكري إلى المعتزلة، لتصوير الأمر كما لو كان امتدادًا لفرقة إسلامية قديمة.. وبالتالي يسِّوق أصحابُ هذه الكتابات لحججهم، ويرفعون عن أنفسهم تهمة التأثر بالغرب.

والمشكلة أن بعض هذه الكتابات تصور المعتزلة على غير حقيقتهم، وتقدمهم بـ”منظار حديث” أو “قراءة معاصرة” لا تتحرج في تحريف آرائهم والتقوّل عليهم بما ليس فيهم! حتى صرنا أمام “صورة متخيَّلة” عن المعتزلة لا تطابق في الكثير من أجزائها، الأصلَ والحقيقة!! (1)

ففرقة المعتزلة، فيما يقول أحد سدنة التنوير– قد نشأت حين كان المسلمون “يتصارعون بالنصوص التي تختار منها الفرقُ المتنازعة ما يوافقها؛ فإذا لم تسعفها النصوص لجأت إلى وضعها وتزييفها. ومن هنا، أصبحت الحاجة ملحة إلى مرجع يرتضي حكمه الجميع؛ ولم يكن ذلك المرجع إلا العقل، الذي جعله المعتزلة إمامًا ورائدًا في فهم العقيدة وقراءة النصوص”(2).

ومبعث هذا الافتئات عن نشأة المعتزلة، إنما هو- كما يقول د. القوصي- محاولة بائسة من أولئك الزاعمين، لإظهار الأمر وكأن ثمة “أزمة” في فهم النصوص الشرعية قد حدثت في ذلك الزمان الباكر من التاريخ الفكري، وأن هذه الأزمة قد جعلت الأمة تنفض يديها من النصوص، ثم تلجأ إلى العقل؛ حيث “لا إمام سوى العقل، مشيرًا في صبحه والمساء”، على حد تعبير أبي العلاء المعري، الأثير لدى التنويريين والحداثيين (3).

وفي هذه السطور نتوقف عند مسألتين من مسائل المعتزلة؛ أسيء فهمهما، واتُّخِذتا ذريعة للنفاذ إلى المضامين الحداثية..! وهما مسألتا تقديم العقل، والقول بالتحسين والتقبيح العقليين.

تقديم العقل في ترتيب الأدلة

أدلة الاستدلال عند جمهور المسلمين: الكتاب والسنة والإجماع، ثم مصادر أدلة أخرى مختلف في حجيتها.. لكن المعتزلة يخالفون ذلك ويضيفون العقل، بل ويقدمونه على هذه المصادر الثلاثة.. يقول القاضي عبد الجبار: “الدلالة أربعة: حجة العقل، والكتاب، والسنة، والإجماع. ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل”(4) .

وهنا يأتي السؤال: بأيّ معنى يقدّم المعتزلة العقل؟ وهل هذا يعني تقديمه على النقل، على النحو الذي يريده الحداثيون؛ ومن ثم، إهمال النقل بزعم مخالفته للعقل؟

إن المعتزلة إذا كانوا يقدّمون العقل أصلاً للأدلة، فإن هذا التقديم- كما يقول د. عادل السكري- لا يعني أن يكون حكم العقل فوق حكم الكتاب؛ لأنهم يجعلون الكتاب هو الأصل في الأحكام، أما العقل فهو الذي يميّز بينها ويقدّر دلالتها. أي إنهم يقدمون العقل تقديمًا معرفيًّا لأجل فَهْم الشريعة.. فيكون العقل هو (الأصل معرفيًّا)، ويكون الكتاب هو (الأصل شرعيًّا). وهنا، لا ينبغي أن نخلط بين تقديم العقل كأصل معرفي لفهم الشرع، وهو مذهب المعتزلة؛ وبين تقديم العقل كمصدر للشرع، وهو ما لم يصرح به أحد من المعتزلة (5).

إن أحدًا من المعتزلة لم يذهب في مصنفاته أو مقالاته إلى القول باستقلال العقل بأحكام الشرع؛ إذ “كيف يدل العقل على أن الصلاة بلا طهارة لا تكون عبادة، ومع الطهارة تكون عبادة، وحال الخضوع فيها وبها لا يتغير؛ وأن صوم يوم النحر لا يكون عبادة، وقبله يكون عبادة؛ وأن أداء الزكاة، على طريق الوجوب، قبل الحول لا يكون عبادة، وبعده يكون عبادة؛ وأن الواجب أن تؤدَّى إلى واحد دون الآخر؟ وذلك يبيّن أنه لا مجال للعقليات فيه على وجه من الوجوه”(6) .

إذن، تقديم العقل على الكتاب والسنة، عند المعتزلة؛ لا يعني إهمال النقل ولا أنه مصدر للمعرفة الشرعية؛ أي ليس بديلاً عن النقل.

القول بالتحسين والتقبيح العقليين

من أصول المعتزلة القول بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح، ولو لم يرد بهما شرع، وأن للشيء صفة فيه جعلته حسنًا أو قبيحًا؛ فالصدق فيه صفة ذاتية جعلته حسنًا، والكذب فيه صفة ذاتية جعلته قبيحًا، ولذلك يشترك العقلاء في حسن الإحسان إلى الفقير وإنقاذ الغريق، ويستقبحون كفران الجميل وإيلام البريء، ولو لم يصلهم في ذلك شرع، بل ولو كانوا ملحدين؛ والشرع لم يجعل الشيء حسنًا بأمره به، ولا القبيح قبيحًا بنهيه عنه، بل الشرع إنما أمر بالشيء لحسنه، ونهى عن الآخر لقبحه، ولا يستطيع الشرع أن يعكس؛ لأن أمره ونهيه تابعان لما في الشيء ذاته من حسن وقبح (7) .

ويوضح أحمد أمين أن المعتزلة ربما دعاهم إلى وضع هذا المبدأ، ما رأوا من مغالاة قوم وجمودهم على ما ورد من حديث ولو موضوعًا، ووقوفهم عند النص، فإذا لم يجدوا نصًّا لم يجرؤوا على إبداء رأي؛ وقد رأيتَ هذه النزعة عند كلامنا على مدرسة الحديث. فأحسّ المعتزلة بالخطر الذي يصيب الناس من شلّ العقل إلى هذا الحد، فوضعوا هذا الأساس(8)

ويلفت د. القوصي النظر إلى أن هذا المبدأ يعكس- بخلاف ما يراه البعض- ثقةً في الشرع؛ من حيث بيان اتفاق الشرع مع ما يقرره العقل السليم.. وأنهم قالوا به ردًّا على الفرق الإلحادية المناوئة للإسلام.

يقول القوصي: في هذا المناخ الفكري المحتدم تبلور- في الوسط الاعتزالي- مبدأ التحسين والتقبيح العقليين، وفي البؤرة من اهتمام واضعيه هدف محدد يجابهون به تلك الموجات العارمة من الإلحاد، بمختلف اتجاهاته وصنوفه، التي تبغي أن تنال من الإسلام منالاً؛ ألا وهو بيان أن ما يتضمنه الإسلام- من عقائد وشرائع، وأوامر وضوابط- فإنما هي أمور يحكم العقل السليم المجرد عن كل المؤثرات بحسنها المطلق؛ وأن ما نهى الإسلام عنه فإنما هي أمور يحكم العقل الخالص وحده بقبحها المطلق؛ بحيث إننا لو افترضنا جدلاً أنه لم يأتِ من الله تعالي شرعٌ لَحَكَمَ العقلُ بمفرده بنفس ما قضى به الشرع حسنًا أو قبحًا، أمرًا أو نهيًا. ومن ثم، فإن الشرع حين أمر بشيء فقد “كشف” عما ينطوي عليه من وجوه الحسن، وحين نهى عن شيء فإنما “كشف” عما يتضمنه من وجوه القبح (9) .

ويبين د. القوصي أن المعتزلة لم يَدُرْ بخَلَدهم البتة- كما يبدو ذلك بأدنى تأمل- أن يكون دينهم هو دين العقل “البديل” عن الشرع، ولا أن يكون دينهم هو دين العقل “الناقض” للشرع، ولا أن يكون دينهم هو دين العقل “الحاكم” على الشرع؛ لم يكن شيئًا من ذلك يدور بخلدهم حتى نبتت نابتة التنوير، فإذا بهم يتخيلون في مذهب المعتزلة أشباه هذه الترهات، دون أن يكلّف أحدهم نفسه بمجرد قراءة “عنوان” أحد الفصول الضافية التي تتضمنها الموسوعة الاعتزالية الباذخة (المغني) للقاضي عبدالجبار، المجلد الخامس عشر: (إنه لايجوز أن تُعرف أحوال المصالح السمعية باستدلالٍ عقليّ)(10).

ومع هذا، يبين د. القوصي أن مبدأ التحسين والتقبيح العقليين قد تعرّض في دوائر الفكر الإسلامي الأخرى إلى ضروب شتى من النقاش المتفاعل… إذ كيف السبيل، مثلاً، إلى أن تتجرد أحكام العقل- لو أُخذت بمفردها- عن الذاتية والشخصانية؛ وأن تنأى عن عوامل البيئة، وبواعث الوراثة، ومؤثرات التكوين الأسري والاجتماعي؟ ثم، ألا ينزلق العقل أحيانًا- حين يخضع لشيء من تلك المؤثرات- إلى استحسان بعض القبيح، أو إلى استقباح بعض الحسن؟… وهو ما يجعل التآخي بين العقل والشرع ضرورة وجود، وقضية مصير…لكنّ أمرًا واحدًا يجب أن يُنزَّه عنه فكر الاعتزال بعامة، ومبدأ التحسين والتقبيح العقليين بخاصة؛ وهو أن يكون ذلك الفكر- كما يزعم التنويريون- نقيضًا للشرع، أو بديلاً عنه، أو حَكَمًا عليه؛ فذلك ما لم يخطر للمعتزلة على بال!”(11).

وهذه الخلاصة التي انتهى إليها د. القوصى هي ما يريد هذا المقالُ لفتَ النظر إليه.. ضمن ملاحظة أوسع، وهي أن الفكر الاعتزالي صارت له “صورة مُتخيَّلة” في الكتابات الحداثية؛ تستحق أن تُرصد وتُطابَق.. ومن ثم، تُقوّم؛ إنصافًا للمعتزلة ممن يرفعون اسمهم، ويريدون النفاذ من خلاله إلى أغراضٍ مغايرة!!


([1]) كتبتُ هذا المقال بتأثير فكري من الكتاب الرائع (السَّلف المتخيَّل)، للدكتور رائد السمهوري.

([2]) رؤية إسلامية في قضايا معاصرة، د. محمد عبد الفضيل القوصي، ص: 119. ولم يذكر د. القوصي صاحب هذا النص الذي نقله. وما أكثر ما نرى من تمجيد للمعتزلة في كتابات العلمانيين والحداثيين، وليتهم يلتزمون بـ”الصورة الحقيقية” عنهم!!

([3]) المصدر نفسه، ص: 120.

([4]) شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، ص: 88.

([5]) النزعة النقدية عند المعتزلة، د. عادل السكري، ص: 76، 77.

([6]) المصدر نفسه، ص: 77، 78. وما بين التنصيص هو للقاضي عبد الجبار في كتابه (المغني)، 15/ 48.

([7]) فجر الإسلام، أحمد أمين، 298.

([8]) المصدر نفسه، ص: 298.

([9]) رؤية إسلامية في قضايا معاصرة، د. القوصي، ص: 124، 125.

([10]) المصدر نفسه، ص: 126.

([11]) المصدر نفسه، ص: 126.