لسنواتٍ كنتُ أقف حائراً أمام مفردة “الأصالة” التي يوصف بها الكتبة أحياناً، وتُنعت بها المكتوبات أحياناً أخرى.

ففي الأدباء من يوصف بأنه “كاتبٌ أصيلٌ”، وفي الأوساط العلمية يتكرر ذكر “الأصالة” بوصفها شرطاً من شروط قبول البحث العلمي، ويتجاوز الوصفُ بالأصالة عالم الكتابة إلى عوالم أخرى: فلربما تحدث المعماريون في وصفهم لبعض المباني فنعتوا المبنى الفلاني بأنه مبنى أصيلٌ.. وقد يوصف المطبخ الفلاني بأنه مطبخ أصيل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأزياء، والعادات، وما يجري على ألسنة المتفاخرين بأنسابهم العريقة وجذورهم العميقة في بعض البلدان.

والذي أود الحديث عنه باقتضاب تسمح به مساحة هذه المقالة: هو محاولة فهم الكاتب الأصيل والكتابة الأصيلة.

يزعم العقاد رحمه الله: “أن الذي يقرأ ليكتب وكفى هو “موصل رسائل” ليس إلا.. أو هو كاتب بالتبعية وليس كاتباً بالأصالة. فَلَو لم يسبقه كتاب آخرون لما كان كاتباً على الإطلاق، ولو لم يكن أحد قبله قد قال شيئاً لما كان عنده شيء يقوله للقراء”.

الكاتب عباس محمود العقاد

وهذا كلامٌ طريفٌ على ما فيه من ألعابٍ لفظية يفقد معها القول قدراً من قيمته ووجاهته! إذ لا نعرف اليومَ كاتباً من البشر إلا وقد سبقه إلى الكتابةِ من قبله قوم، ولا نعرف قائلاً إلا وقد سبقه قائلون وقائلون! وهو ما يجعلنا أمام أكثر من معضلة: أن نزعم أنه: إن كان للغول والعنقاء والخل الوفي رابعٌ فهو الكاتب الأصيل! أو أن نحاول العثور على طريقة ما لجعل الكاتب الأصيل شيئاً ممكناً.. وهو ما أميل إليه، لا اعتداداً بالذات، ولكن اتباعاً للعُرف الأدبي، وكذلك العرف الأكاديمي الذي يجعل الأصالة أمراً مقدوراً عليه.. وشرفاً يمكن نيلُه بالتزامن مع نيل شرف الإفادة من منجزات السالفين ومأثورات السابقين.

ليس الكاتب الأصيل إذن هو الكاتب الذي لا يتأثر بأحدٍ؛ فالإنسان مقتبسٌ، ومقلدٌ، ومحاكٍ من الطراز الأول.

ولكن الكاتب الأصيل مختلف عن الكاتب الذي وصفه العقاد بأنه “موصل رسائل ليس إلا”! فهو أكثر من ذلك بقليل أو كثير: والأصالة تبدأ منذ اللحظة التي يتلقى فيها الكاتب المعرفة..

ليس مطلوباً من الكاتب أن يكون قارئاً يلتهم النصوص التهاماً، ويحتويها في ذاكرته كما هي، ثم يلفظها عبر قلمه إلى القارئ؛ بل المطلوب منه أن يتمثّل ما يقرؤه، وأن يهضمه جيداً، وأن يضيفه إلى معرفته حتى يكون قادراً على إعادة إنتاجه بطريقته الخاصة.

ولن يصل الكاتب/ القارئ إلى هذه القدرة على القراءة المنتجة إلا بالعكوف الطويل على القراءة والمران الطويل على الكتابة؛ ففي رحلة القراءة، كما في رحلة الكتابة.

يتساقط الكثيرون في طريق النضج، وللزمن دوره الحتمي في صناعة القارئ الناضج والكاتب الناضج.. قد يفلح التدريب الكثيف على الكتابة، كما العكوف اليومي على القراءة، في اختصار بعض الرحلة. لكن يبقى للوقت حضوره الذي لا يمكن محوُه.. ويؤخذ العلم، وتُنال المهارة أيضاً، شيئا بعد شيء، مع مرور الأيام والليالي.

والكاتب الأصيلُ لا بد له من معرفة نفسه، لأن الأصالة في الكتابةِ قدرةٌ على الانطلاق من الذات، ومن الراحج أن من يعرف نفسه جيداً ويفهمها سيكون أقدر على التعبير عنها، وعلى النظر إلى الآفاق بطريقة أكثر ذاتيةً.

يقول كولن ويلسون في سيرته “حلم كاتب ما”: “عندما يجلس الْيَوْمَ كاتبٌ شاب أمام حزمة من الأوراق فإن السؤال الذي يواجهه ببساطة ليس “ماذا أكتب؟” بل “من أنا؟ وماذا أبتغي أن أكون؟”، ومن المؤكد أن يكون هدفه من الكتابة مرتبطاً بإحساسه بالذات، وإذا حصل ولم تكن أمامه صورةٌ واضحة المعالم لإحساسه بذاته أو كانت صورته الذاتية مشوهة فإنه ربما لا يزال في قدرته ملاحظة العالم المحيط به ووصفه بدقة عظيمة، لكن المؤكد أنه سيكون عاجزاً عن خَلق عمل عظيم وذي أصالة”.

الكاتب الإنجليزي كولن ويلسون

وليس الكاتب الأصيل هو من تخطر على ذهنه فكرةٌ لم تخطر لأحد قبله! فالمعنى الواحد يمكن التعبير عنه بما لا يحصى من التعابير الأصيلة، كما يحدث لمعلم سياحي واحد أن يظهر في ألف ألف صورةٍ فوتوغرافية أصلية التقطها ألف ألف سائح!

لكل إنسان حظ ما من الفرادة عن الآخرين، وحظ آخر من التشابه معهم، ومن مزيج الفرادة والتشابه تكتسب الحياة “دراماها” الخاصة، وتكتسي حلة من التنوع في إطار من الوحدة والتشابه، وتصبح حياة كل واحد منا قصةً مختلفةً عن قصة الآخر، تستحق أن تحكى، وأن تُكتب!

والأصالةُ لا تعني ألا يطرق الكاتب موضوعاً سبق للناس طرقُه؛ فقد كان الحكماء والشعراء والقصّاص، ولا يزالون، يكتبون عن الحب، المعنى الكبير، المحتوي لمعانٍ كثيرة: الشوق، واللهفة، والفرحة باللقيا، والرهبة من الفراق، والشك بالوصل أو الهجر، والعتاب، واليأس، والندم.. ونحو ذلك من المعاني التي لم يخل لسان ولا بلد من الإشارة إليها بشتى الطرق!

هي إذن مسألة زاويا! فالكاتب الأصيل يكتب تجربته الذاتية للحياةِ، وتحدياتها التي واجهته كما واجهت غيره من الناس، مع فوارق لا بد منها لتكتمل سمة الفرادة، والكاتب الأصيل يناقش الموضوع القديم بكلمات جديدة، ويتحدث عن الفكرة المكرورة بطريقة غير مكرورة فينتج الإبداع الفكري، أو يستنسخ فكرةً قيلت في سياق حضاري مختلف، ليجربها في سياق جديد.

الكاتب الأصيل نحلة، تمتص الرحيق، وتضيف إليه من ذاتها فإذا هو عسل! والكاتب الأصيلُ طاهٍ، يشتري من السوق الذي يشتري منه كل الناس؛ لكنه يضيف لمسته على تلك المكونات التي توجد في كل بيت، يختار المقادير، وطريقة الطهو،فيخرج النتاج طعاماً باذخاً.

والأصالةُ ليست ألا نقتبس، بل هي ألا نسرق!