“اسمع يا بني! لقد عشت حياة طويلة عريضة، جربت فيها أن أعمل لدى الغير، وأن أصدر مجلات خاصة كالمجلة المصرية التي أنشأتها في أوائل هذا القرن ولم تعمر أكثر من عامين، واستأنفت إصدارها في عام ١٩٠٩ دون أن يطيل ذلك من عمرها، كما أصدرت مجلة الجوائب المصرية في عام ١٩٠٣ فلم تعمر طويلاً. وكان قصدي من ذلك أن أحقق لنفسي مورداً ثابتاً أعيش منه، لأن الشعر الذي وقفت عليه كل عمري لم ينوّلني أي عطاء يرفد رزقي، فلم أكسب منه شيئاً. ولهذا أنصحك بأن تستند في حياتك إلى وظيفة أو عمل ثابت يؤمن لك معيشتك، أما الأدب فاجعله هواية مثل الزكاة التي يخرجها الناس من كسبهم”.

لو كان قائل هذه الوصية السالفة واحداً من غمار الكتاب العرب لكان للقارئ مندوحة عن التفكير في الحال المادية التي يعيشها الكاتب العربي، ولكن هذه وصيةٌ قالها للأديب “وديع فلسطين” أديبٌ عظيم يدعى “خليل مطران”، شاعر القطرين، وأحد مشاهير الأدباء والشعراء في القرن العشرين، طبقت شهرته الآفاق ودار اسمه سبع دورات من المحيط إلى الخليج دون أن يجديه ذلك ثروةً أو غنى!

الشاعر خليل مطران

ولم يكن هذا مطران استثناءً من بين كبار الكتّاب العرب الذين كان الكثير منهم يعيش على الكفاف أو حواليه: فوقه بقليل أو دونه بقليل! العقّاد الذي كان يمر عليه اليوم أحياناً دون أن يصيب أكثر من شطيرة فول واحدة، والمازني الذي كان على الرغم من صيته الذائع يعيش حياة الكادحين ويحاول أن يستقطر بعض الجنيهات القليلة بقلمه الغزير، وأنور الجندي الذي عاش وقضى في شقة متواضعة بعمارة متواضعة يتكرر انقطاع الماء عنها كل بضعة أيام.

الكتابة -إذاً- في عالمنا العربي تأخذ أكثر مما تعطي، وتعد الفقر ولا يرجو المرء من ورائها غنى!

ويصدق على الكتابة ذلك الوصف الظريف الذي أطلقه غابرييل ماركيز على مهنة الصحافة التي كان يحترفها قبل أن يفتح الله عليه، إذ قال إن للصحافة مزية التناقض بين كونها وظيفة مهمة وسيئة الأجر!

وبطبيعة الحال؛ فإن الناظر سيجد في الكتّاب العرب من عاش حياة الرفاهية والدعة، ولكن ذلك كان لأسباب لا علاقة لها بالكتابة؛ كثروةٍ موروثة، أو وظيفة حسنة الإيرادات، أو تجارة نافقة، أو علاقة بذوي السلطان، أو براعة في ألوان من الكتابة متخصصة وعظيمة العوائد.

والحال في أوروبا وأمريكا الشمالية مختلف تماماً، إذ ينعم الكتّاب في تلك الديار بفرصة الوصول إلى درجة من الرفاه، تتيح للواحد منهم أن يمتلك بيتاً وأكثر، وأن يعيش عيشة الرغد والسعة.

وحدث مراراً عديدة أن انتقل بعض أولئك الكتاب من الفقر إلى الغنى من وراء كتاب واحد وحسب، ودونكم مثالاً هو “كولن ويلسون” الشاب البريطاني المولود في بيتٍ متواضع لأب محدود الدخل، والذي جرب أن يشتغل في المعامل والمزارع والمقاهي، وعاش حياة التشرد والمبيت في الحدائق العامة قبل أن ينشر أول كتبه وأجلها “اللا منتمي” وهو الكتاب الذي جلب عليه الشهرة بكل حسناتها وسيئاتها، وعرّضه للثناء البالغ كما عرّضه للعنات والافتراءات، لكنه -وهذا ما يعنينا الآن- جلب له ثروةً حسنة اشترى بها داراً فاخرة في الريف الإنغليزي وزودها بمكتبة ثرية بالكتب والأسطوانات الموسيقية، وعاش حتى نهاية عمره يكتب ويستمتع بالحياة.

الكاتب الإنجليزي كولن ويلسون

 

وقل مثل هذا عن “إرنست همنغواي” الذي بدأ حياته العملية صحفياً، ثم تفرغ للكتابة، وعبَر عنق الزجاجة الطويل بين البداية والشهرة،  ولما ذاع صيتُه انفتحت عليه أبواب الدنيا حتى إنه اشترى لنفسه داراً هائلة المساحة تحيط بها حديقة تمتد لعدة أفدنة في قرية وادعة على ضفاف المحيط الأطلسي، واقتنى لنفسه باخرةً صغيرة يتجول بها متى ما شاء.

ومعاصره “إرسكين كالدويل” الذي كان يقتات الشهور ذوات العدد على البطاطا في بيت  خال من التدفئة بولاية “مين” الباردة في شمال شرق الولايات المتحدة، ثم فتح الله عليه فعاش عيشة رغيدة. والأمثلة لا تنتهي، وهي تقول لنا بوضوح باذخ: إن بوسع الكاتب الغربي أن يعتاش من وراء قلمه عيشة حسنة، وهو أمر لم يتح حتى اللحظة للكاتب العربي.

ليس عسيراً أن نصل إلى تعليل لهذا الفارق بين حال الكاتب العربي وزميله الغربي، فسوق الكتابةِ في تلك الديار رائجة، الكاتب يتفرغ لقلمه ويتقن أدواته، وسواءٌ أسار الأمر وفق النمط الأمريكي الذي يعد الكتابة صنعةً، أو النمط الأوروبي الذي يرى في الكاتب فناناً؛ فإن المؤدى واحد في الحالين: ثمة ناشر، ووكيل أعمال، وقانون يحفظ الحقوق، وكتب تطبع بعشرات الألوف من النسخ، وأحياناً بمئات الألوف، وينال المؤلفُ حقوقه المادية -على اختلاف في صيغ نيل الحقوق- لكن العوائد التي ينالها الكاتب تكفيه ليتعشى جيداً كل يوم ويسدد فواتيره وأجرة منزله.

وفي المقابل؛ نجدفي عالمنا العربي سوق نشرٍ هزيلة، قد بدا من هزالها كلاها، وسامها كل مفلس، يعيش كثير من الناشرين على حافة الكفاية، وينتظرون نوبات سعة في واحد أو اثنين من معارض الكتب. وليس الكتّاب بأحسن حالاً من الناشرين، فهم في أحيان كثيرة يغرمون من وراء كتبهم ولا يغنمون منها شيئاً.

في مقدمته لكتاب “أين كانوا يكتبون.. بيوت الكتّاب والأدباء حول العالم” يذكر الأستاذ شاكر نوري أن بيت الشاعر اللبناني بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصغير حول إلى مرأب بعد وفاة صاحبه، في الحين الذي تتحول فيه بيوت الأدباء الأوروبيين والغربيين إلى متاحف وأماكن لها مكانها في نفوس من يقرؤون لهم… ثم يقول: “المفارقة صعبة بين المرأب والمتحف!”

كتاب “أين كانوا يكتبون”

 

وهكذا يصبح الإقدام على امتهان الكتابة في الواقع العربي الحالي قراراً نصف مجنون على نحو ما، حتى يأذن الله بتغيير الحال!