يتناول المؤلف غوستاف سايبت في كتابه غوته ونابليون: لقاء تاريخي[1]، -الذي صدر لأول مرة سنة 2008م في ألمانيا، وأعيدت طباعته بعد ذلك خمس مرات في ظرف سنتين- ذلك اللقاء التاريخي الاستثنائي الذي جمع بين شاعر ألمانيا الشهير فون غوته (1749-1832م)، وإمبراطور فرنسا العظيم نابليون بونابرت (1769-1821م)، وذلك في مدينة إيرفورت عاصمة ولاية تورينغن الألمانية إثر هزيمة قائد جيش بروسيا في معركة يينا وأويرشتيت يوم 15 أكتوبر 1806م. وقد تولَّد عن هذا اللقاء حوار غير قابل للفناء بين هذين العبقريين، وكانت له تأثيرات ممتدة في الأعمال الأدبية والإبداعية لغوته. وحتى قبل هذا اللقاء الشهير قيل أن الجنرال نابليون أسَرَّ لبعض مقربيه بأنه تأثر برواية غوته: “آلام الشاب فرتر”، والتي قرأها في فترة شبابه. بل ثمة بعض الدارسين من أكد، بشكل مبالغ فيه، أنها كانت وراء حملته الشهيرة على مصر.

يأتي كتاب غوته ونابليون في سياق عودة الاهتمام ببيوغرافية الأفراد منذ ثمانينيات القرن العشرين، وهي عودة تنسجم مع تزايد تغلغل فلسفة الذات ومنطقها من جديد، الأمر الذي يُعَبِّر عن تحول إبستمولوجي عميق في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث أُعيد الاعتبار لنظريات الفعل بطريقة قوية، وضمن تصور شمولي.

إن السير المتوازية والمتقاطعة تمنحنا حق النبش في طبيعة العلاقات التي تنشأ بين الأفراد، وملامسة الخصائص والمميزات الفردانية، إذ لكل شخص صرخة خاصة، سماها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: “الصرخة البيوغرافية”، وكتابة السيرة هي بحث عن تلك الصرخة: أي تفريد الفردانية، والبحث عن أدق الاختلافات الدالة عن المعنى[2]. وقد اشتهرت في فرنسا بالخصوص العديد من البيوغرافيات المتوازية والمتقاطعة الناجحة الصيت، والتي تعبر عن انتعاش هذا النوع من الكتابة الهجينة، التي كانت مبعدة لسنوات عن الحقل الأكاديمي. ولكي نقدر ضخامة الانقلاب الذي وقع لابد من أن نتذكر قوة العقيدة المضادة لكتابة السيرة في الستينيات من القرن الماضي[3]. قبل أن يتحرر كاتب السيرة من القيود التي كبلته.

لا بد من الإشارة إلى أن غوستاف سايبت ليس هو الأول ممن تناول هذا اللقاء المتفرد بين الشخصيتين، بل إن عددا من الكتابات والمقالات في البلدين تطرقت إليه، واهتمت بتفاصيليه وحيثياته. غير أن إضافة سايبت تتمثل في المنظور النقدي المعاصر لهذه اللحظة، إذ استحضر السياق التاريخي العام والأبعاد الأدبية له. كما تناول مسألة إشكالية، ألا وهي علاقة المثقف بالسلطة عموما، وبالسلطة الغازية تحديدا، لذلك فشرعية الاشتغال على أية شخصيات سبقت دراستها تبقى قائمة باستمرار، فكل باحث يستطيع أن يتناولها من زاوية ما ويعرضها بشكل مختلف، وفي صورة جديدة. فالفرضيات والنتائج التي يتوصل إليها البيوغرافي تبقى مفتوحة أمام دراسات جديدة، ومن المستحيل الوصول إلى حقيقة الأفراد. لأنه وحسب تعبير دانييل مادلينا يصعب على البيوغرافي ادعاء القدرة على الوصول إلى كُنْهِ الشخصيات، وإنما هو يقوم بجمع العديد من العناصر لينتج في النهاية حياة من يرغب في كتابة بيوغرافيته.

ومن الجدير بالذكر أيضا الإشارة إلى أهمية السير التي تناولت شخصية نابليون بونابرت بالتحديد لأهميتها في التاريخ الفرنسي خصوصا والتاريخ الأوربي عموما، حيث نتوقف مع زخم تأليفي مهم، حتى في المرحلة التي هيمنت فيها مدرسة الحوليات على الحقل الأكاديمي الفرنسي، فبيوغرافية نابليون التي كتبها جون تولار سنة 1977م كانت بطلب من مديرة منشورات فيارد Fayard، التي اقترحت عليه أن يكتب بيوغرافيا تاريخية لنابليون بونابرت، لكنه ظل متحفظا من استعمال هذه الكلمة التي كانت ما تزال تنتمي في تلك الفترة إلى المحرَّمات الجامعية بقوله: “كنت قبل كل شيء باحثا، ورغم أن شعارات التاريخ الجديد لم تكن تثيرني البتة، إلا أني كنت أنتمي قبل كل شيء إلى الحقل الأكاديمي، البيوغرافيا لا يمكن ممارستها في الجامعة، لأنها لم تكن تاريخا، وإنما أدبا”[6].

في السيرة المتوازية والمتقاطعة لسايبت، يتعقب بشكل دقيق ما طرأ على حياة غوته من تحولات، ويتوقف عند لحظة شعوره بالقلق والخوف جراء فوضى السلب والحرق التي تزامنت مع لحظة استيلاء الجيش النابوليوني على مدينة فايمار التي استقر بها الشاعر الألماني منذ زمن، وبالخصوص حين وصلته أنباء مؤكدة عن تعرض عدد من منازل شخصيات رفيعة لأعمال النهب والسطو والعنف، بالإضافة إلى انتشار أنباء مؤكدة عن وجود حالات الاغتصاب المصاحبة للاجتياح. غير أن مصير غوته كان مختلفا فقد تكفل عدد من جنرالات فرنسا بحمايته بعد ليلة مرعبة، لأن مواقفه السياسية داخل بلاط فايمار كانت تناصر إقامة علاقات ودية مع المنتصر بدل من مواجهته.

بعد سنتين من احتلال فايمار، دعا نابليون إلى عقد مؤتمر في ايرفورت بألمانيا استدعى له الملوك والهرتسوغات التابعين له، وقد اصطحب معه عائلته وأهم جنرالاته بالإضافة إلى عدد من نجوم التمثيل الفرنسيين، وكان الهدف تقديم هؤلاء روائع التراجيديا الفرنسية للتأثير في الألمان. وبالطبع، فإن نابليون لم يتعامل بجفاء كبير مع هذه المدينة وحكامها بعد احتلالها، لأنه كان حريصا على جذب القيصر الروسي ألكسندر بافلوفيتش إلى صفه في صراعه مع النمسا، خاصة وأن أخت هذا الأخير كانت زوجة لولي عهد فايمار كارل فريدريش.

تابع غوته العروض المسرحية الفرنسية، باعتباره مدير المسرح في فايمار، وجلس في الصالة الشرفية التي كان بها الإمبراطوران الفرنسي والروسي، وحين قررا هذان الأخيران القيام بجولة في المدينة تكفل غوته بإعداد برنامج الزيارة. وتم اللقاء التاريخي بينهما على مائدة الإفطار في 2 من تشرين الثاني عام 1808م إيفورت، بحضور عدد من الشخصيات الفرنسية البارزة. وقد تولد حوار غير قابل للفناء بين أكبر شعراء عصره وأقوى رجالات أوروبا العسكريين، فقد خاطب نابليون غوته بالعبارة الشهيرة: “أنت رجل”[10]. وقد ظل غوته يلمح إلى مضامين وتفصيلات ما جرى من حديث بينهما في هذا اللقاء شفويا، ولم يعمل على تدوين نص الحوار كاملا إلا في عام 1820م.

ينطلق سايبت في كتابه من نص هذا الحوار الذي دوَّنه غوته ليبني من خلاله سياقاته الثقافية والسياسية المختلفة، ويتوقف كثيرا عند مواضيع تم التطرق إليها في النقاش، ليخلص الكاتب إلى أحد أهم نتائجها، حيث يرى أن غوته وبرغم هزيمة بلده ألمانيا كان يمثل سلطة أدبية قوية في مواجهة السلطة العاتية التي كان يمثلها نابليون بونابرت.

يتتبَّع أيضا سايبت لحظات الصعود والسقوط في حياة نابليون بونابرت ما بين سنة توليه السلطة بعد الفوضى التي أعقبت الثورة الفرنسية وإلى غاية استسلامه للإنجليز بعد انهزامه، وذلك إثر تعثر غزوه لروسيا القيصرية. وسعى المؤلف إلى قراءة لحظتي المجد والأفول هاتين المرتبطين بتوسعاته على واجهة الشرق الأوروبي في شعر غوته وفي تفكيره.

في إحدى قصائده، يُدين غوته الروس على سوء تقديرهم للأمور، ويوجه لهم اللوم على ما حدث من تخريب للبيوت وحرق لموسكو في المواجهات المدمرة بين الطرفين، وتعاطف بشكل أو بآخر مع نابليون، وهو أمر يبدو جليا في مؤلفه الشهير الموسوم بالديوان الشرقي للمؤلف الغربي، غير أن علاقة غوته بنابليون التي حضرت في مسرحيته فاوست تبقى العلامة البارزة في الارتسامات التي كونها الشاعر عن الإمبراطور، ففي الوقت الذي أدان فيه غوته السياسة التوسعية النابوليونية، باعتبارها السبب الرئيس لتخريب السلام الأوروبي، فإنه أبان عن حب وتقدير كبيرين لشخصية نابليون وعبقريته العسكرية والسياسية.

يتوقف الكتاب عند لحظات مصيرية في حياة غوته، الأولى في حرب سنة 1792م حين شارك في معركة كانونادي فون فالمي في صفوف الفرق البروسية -النمساوية إلى جانب قائد الهرتسوغ كارل أوغست لمواجهة زحف فرنسا الثورية. وكان قبل قوسين من الموت حين بدأت حُمَّى المدافع الفرنسية في إلقاء عشرات القذائف التي تساقطت حوله، ولولا سرعة بديهيته وامتطائه حصانا شاردا نقله إلى منطقة آمنة لكان في عداد القتلى. ولم تفارق هذه الحادثة ذاكرة غوته، حيث استحضرها مرارا وتحدث عنها بعد ذلك في تقرير مفصل سماه: “وأنا أيضا كنت في الحملة”، والذي صدر في كتاب سنة 1822م. أما اللحظة الحرجة الثانية، فكانت ليلة 15 تشرين عام 1806م حين خسرت بروسيا الحرب في معركة يينا-أويرشتيت أمام الجحافل العسكرية لنابليون، وأصبحت هرستوغية زاكسن فايمار تحت رحمة الجنرالات الفرنسيين. وبالرغم مما قيل عن السلوك المنضبط لكبار الضباط من أمثال الأمير مورات والجنرال نيي، إلا أن أعمال انفلات واسعة حدثت ومنها على سبيل المثال نذكر: اغتصاب فولبيوس زوجة كريستيان أوغست صهر غوته، وسلب ونهب وحرق منزل صديقه الرسام جورج ملخيور كراوس ذي السبعين عاما، وهو أحد أعز معارفه. وقد مات متأثرا بالحادث بعد ثلاثة أسابيع من ليلة الرعب المشهورة، وقد شارك في جنازته غوته.

حين نلقي نظرة عن هذه الأحداث المنفصلة من منظر شمولي، يتبين أن فايمار كانت أحسن حظا من مثيلتها من المدن الصغيرة الأخرى التي تعرضت للانتقام والتعنيف القوي.

كانت فايمار ولاية متحدة مع بروسيا، العدو التقليدي لفرنسا، وعليه لم يكن هناك من أمل في أن تحظى بالحماية بعد استسلامها، وبالخصوص حين شوهدت أعمدة الدخان الكثيفة تنبعث من البنايات الخمس المحيطة بالقصر الرئيس للمدينة، فقد ظن الناس حينها أن فايمار قد احترقت بالكامل وأن الخراب لا محال قادم، غير أن القدر ساهم في نجاة المدينة من الكارثة المتوقعة، ذلك أن فايمار كانت تمتلك كما سبقت الإشارة ورقة سياسية رابحة، لا يستطيع نابليون تجاهلها، فقد كان ولي عهد المدينة متزوجا بشقيقة القيصر الروسي الإسكندر الأول، حليف النمسا، وقد كان نابليون يسعى إلى استمالته لصفه لكسر شوكة خصومه، ولولا ذلك لكان مصير دوقية فايمار الفناء.

تتوالى الأحداث السياسية في بافاريا بشكل تفصيلي في الكتاب، منذ الغزو الفرنسي وإلى غاية الانسحاب منها، لكن ما يهم مؤلف السيرة والكتاب، ذكرى نابليون عند غوته العجوز.