قال الله تعالى: (فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) [يوسف : 42]، وهناك آية عظيمة في تربية النفوس وتزكية القلوب لمن تدبرها بإمعان.. يوسف بن يعقوب بن إسحاق، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يرى برهان ربه في الجب، وتأتيه ألطافه، ثم يرى برهان ربه ثانية في القصر، ويسأل ربه السجن؛ خلاصا من كيد امرأة العزيز وصويحباتها فيقول: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33). [سورة يوسف].

فكان له ما سأل: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) [سورة يوسف]

دخل يوسف السجن عن اختيار منه ، ولو اختار العافية لوجدها، قال القرطبي: “حكي أن يوسف عليه السلام لما قال:” السجن أحب إلي” أوحى الله إليه: “يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت”.

وفي سنن  الترمذي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سمع رجلا يقول:” اللهم إني أسألك الصبر فقال سألت الله البلاء فسله العافية”.

لكن لله في دخول يوسف السجن عبر وآيات؛ فألهمه هذا الاختيار. وكم من محنة في طيها منحة ، وقد كان سجن يوسف كذلك  ليس ليوسف فحسب بل للسجناء وأهل مصر جميعا.

ففي السجن تربية للنفس على الخلوة، واعتماد للقلب على الله تعالى لمن وفق إلى اغتنام المحن واعتبارها لوناً من المنح، سجن شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: “ما يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري. إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة”.

وحبس الإمام محمد بن أحمد السرخسي رحمه الله في بئر معطلة، فأخرج المبسوط في عشرين مجلدا، و قال في شرحه عند فراغه من شرح العبادات: “هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمعة والجماعات”

وقال في آخر شرح الإقرار: “انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، أملاه المحبوس في محبس الأشرار”

وقال في آخر كتاب العتاق: “انتهى شرح العتاق، من مسائل الخلاف والوفاق أملاه المستقبل للمحن بالاعتناق، المحصور في طرق من الآفاق، حامداً للمهيمن الرزاق، ومصلياً على حبيب الخلاق، ومرتجي إلى لقائه بالأشواق وعلى آله وصحبه خير الصحب والرفاق “.

في السجن  ظهر فضل يوسف بالعلم، وتبوأ المكانة العالية به، وهدى الله على يديه من شاء من السجناء فكانوا عونا له بعد ذلك.

وحكمة الله تعالى في أقداره لا تتنافى مع الألم الحاصل معها أحياناً، فإن الله تعالى يربي عباده بالأقدار مع ما فيها من الآلام حتى الأنبياء والمقربون يشملهم ذلك: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ العنكبوت (2-3)

لما عبر يوسف الرؤيا لصاحبي السجن: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) أي اذكرني عند سيدك الملك ،  وأخبره بمظلمتي، وأني محبوس بغير جُرْم، قال الله تعالى: (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [يوسف : 42]

إقرأ أيضا : رسالة يوسف عليه السلام في القرآن

      من الذي أنساه الشيطان ذكر ربه؟

هل هو ساقي الملك نسي شأن يوسف ولم يذكر الملك به ؟ أم الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف حين طلب من الساقي أن يُذكّر الملك بشأنه وأنه مظلوم، فطلب حاجته من مخلوق وما كان له أن يفعل ذلك وهو الذي دخل السجن اختيارا  لما سأل ربه فقال:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فكيف ينسى ربه عند تعلقه بالخروج من السجن.

قال شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري: (هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن غفلة عَرَضت ليوسف من قبل الشيطان، نسي لها ذكر ربه الذي لو به استغاث لأسرع بما فيه خلاصه ، ولكنه زلَّ بها فأطال من أجلها في السجن حبسَه، وأوجع لها عقوبته، … عن الحسن قال: قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: ” رحم الله يوسف لولا كلمته ما لبث في السجن طولَ ما لبث ، يعني قوله: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). قال: ثم يبكي الحسن فيقول: نحن إذا نـزل بنا أمرٌ فزعنا إلى الناس).

ونحن كذلك إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس، وجالت خواطرنا في من يستطيع التوسط لنا، والشفاعة لقضاء حوائجنا، ونسينا أو تناسينا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]. فهلا بكينا لظلمنا لأنفسنا كبكاء الحسن رضي الله عنه ، وما أجدرنا بذلك.

ما ذكره شيخ المفسرين  في تأويل تلك الآية ذكره غيره مع اختلافهم في الضمير في كلمة (فأنساه) هل هو عائد على يوسف؟ أم على الناجي من رفيقيه في السجن، وهو: ساقي الملك؟

والذي رجحه ابن كثير وجمع من العلماء هو أن الضمير عائد على الساقي لا على يوسف عليه السلام لكن القول بعود الضمير على يوسف قول ليس بالضعيف، وفيه من التربية ليوسف وللمؤمنين من بعده ما فيه ليتعلقوا بالله ويعلموا أن قضاء حوائجهم بيده “إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”.