إننا عندما نطالع المنجز المعرفي لـ “نعوم تُشُومِسكِي” نشعر بأصداء عربية متعددة تنبعث من ذلك النموذج الذي قُدِم في قضايا اللغة واللسانيات، هذه الأصداء حقيقية.. وليست مجرد  تمحل نحاول أن نثبته أو نؤسس له، فقد أعترف الرجل بذلك  شخصيًا عندما قال أنه متأثر جدا بـ”عبدالقاهر الجرجاني”، وغيره من المفكرين اللغوين العرب .

تشومسكي”  يمتلك ناصية اللغة الانجليزية بصورة عبقرية، قدم دراسات في العلوم السياسية والإعلامية مؤسسة بصورة مباشرة على اللغة، بإعتبارها الأداة الأكثر تأثيرًا في الفعل الإنساني، فهو ينظر إلى اللغة بإعتبارها صانعة فكر وحضارة، وعليها تُؤَسس كافة الخطابات والأفكار.

استلهم “تشومسكي” هذه المعاني من كتابات الرواد العرب الأوائل، أمثال: “سيبويه”، “ابن مضاء القرطبي“… وغيرهم في انتاج البنية العميقة والبنية السطحية للغة، ونظرية التوليدية التحويلية .

وهذا يؤكد لنا مدى تأثر “تشومسكي” بالنحو العربي وتأسيس البنية اللغوية العربية في البناء اللغوي لديه، وإن كان بعض الباحثين يرى أن “تشومسكي” لا يعترف بذلك، وإنما يدعي أن ما أنجزه من نظريات في هذا الصدد أنها من بنات أفكاره، إلا أن المتتبع لمشروع “تشومسكي” يدرك  مدى ” تأثير النحو العربي  بطريقة غير مباشرة في نظرية علم اللغة لدى “تشومسكي” التي يعدها من بنات أفكاره، ولم يذكر أي أثر للنحاة العرب في شيء من هذا مطلقاً، [ لذلك فإنا نحاول إبراز ] الخطوط الرفيعة والرئيسة التي تثبت تأثر تشومسكي بالنحو العربي؛ وذلك من خلال اللغة العبرية وترجمتها للغات الأوربية في العصور الوسطى، أو العصر الأندلسي الذي كان يعد العصر الذهبي للغة العبرية. [ وتسليط ] الضوء قليلاً على البنية العميقة والسطحية عند “الجرجاني” ومدى تأثر تشومسكي بها”[1]

هذا الرصد والتتبع لمشروع تشومسكيوبيان مدى فضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية، قضية ممتدة في كافة العلوم، لذلك فإن رصد هذه الظاهرة من باب بضاعتنا ردت إلينا، وكذلك فإن الطفرات التكونولوجية والتحول الرقمي المريع أعطى مساحة غيرعادية في إدراك كثير من الحقائق التي كان من الصعب إدراكها في الماضي لصعوبة الآليات المتاحة الآن .

إن إطلالة كورونولوجية – علم التسلسل الزمني – على نشأة وفكر تُشُومِسكيوعوامل التكوين، توضح مدى تأثيره الكبير بالنحو العربي والطريقة العربية في الكتابة والتنظير، فهو رجل ذو أصول يهودية، وعالم في اللغويات، ورث ذلك عن والده، وفي التاريخ عندما نطالع البعد التأريخي للعلوم اللغوية في أوربا والغرب –  الأندلس تحديدًا  – نجد أن الغرب أسس قواعده النحوية والصرفية وفق النموذج النحوي العربي، ” ولقد كتب تشومسكي رسالته للماجستير عن الصيغ الصرفية في العبرية، والأكثر أهمية من ذلك أن اللغويين اليهود في الأندلس قاموا بكتابة قواعد لغتهم نحوياً وصرفياً على طريقة النحو العربي، فكان النحو العبري صورة طبق الأصل عن النحو العربي، والذي صيغ على هيئة النحو العربي. ومن ثم ترجم إلى اللغة العبرية واللغات الأوربية على أيدي علماء اللغة اليهود في العصر الأندلسي، وكانت اللغة العربية وعلومها من نحو وصرف وبلاغة وغيرها تُد رس بشكل رسمي ومعتمد في جامعة باريس في القرن الرابع عشر، وتسربت هذه المعلومات إلى المدرسة الفرنسية في القرن السابع عشر التي كانت تسمى بالباب العالي (Port  Royal) ، وعلم اللغة المنطقي الديكارتي (Cartesian linguistics..)؛ واستفادت هذه المدرسة الفرنسية من النحو العربي ومدارسه والتي تأثر بها تشومسكي كما يعترف بنفسه بها، فتجد في النحو العبري ظاهرة التقديم والتأخير والتأويل والحذف والزيادة وغير ذلك من الظواهر النحوية العربية.

وهذه الظواهر اللغوية معروفة لدى تشومسكي وطبقها على اللغة الإنجليزية ووجد لها صدى مدوياً في الآفاق في تلك الفترة الراكدة لغوياً فعمل على إحياء اللغة الإنجليزية، وأحدث زلزاله العربي فيها وأعاد بناءها من جديد من خلال الظواهر النحوية العربية الجديدة عليها. وذلك من خلال التقديم والتأخير والتأويل الذي لم يعرف في النحو الإنجليزي من قبله وجاء به من البصرة بنبأٍ يقين. فعمل على زلزلة النحو الإنجليزي القديم وطبق الظواهر النحوية العربية الجديدة عليهما. وسار على منواله كل لغويي العالم تقريباً عرباً وغير عرب” [2].

هذه بعض القضايا التي يمكن لنا أن نؤسس ونؤصل لها وفق قواعد علمية عميقة حول كل نقطة من تلك القضايا، ونحدد أبعادها المعرفية والسياقية وتمثلاتها المتنوعة؛ لكننا أردنا أن نسلط الضوء على الفاعلية بين التراث العربي والمعرفة الغربية الحديثة، وأنها أسست وبنت رؤيتها على منجز أمتنا، وتشومسكي يؤكد ذلك، ويعترف مؤخرًا به، وحتى النظرية الكبرى لديه – التوليدية التحويلية – هي أمتداد عربي ، فهناك تقارب بين المفردات ودلالتها التي استخدمها تشومسكي ، مثل البنية العمية والبنية السطحية، يقابلها في النحو العربي (التركيز على الجمل) والنظم والترتيب، وغير ذلك من القضايا كالتمكن من ناصية اللغة، أي القدرة اللغوية، ويقابها تشومسكي بـ (أمتلاك قواعد القول) ، وغير ذلك من الإفرازات التي أخرجها تشومسكي في ثوب جديد .

وختامًا لذلك، فقد أخذ باحثون لغويون عرب في التنقيب عن أصول نظرية تشومسكي، وبحث مدى نقاط الالتقاء والافتراق بينها وبين الدرس اللغوي لدى العرب، وكان من هؤلاء: أستاذنا الدكتور “عبده الراجحي”[3]، وأستاذنا الدكتور “تمام حسان” ، الذي وازن ” بين نظرية النظم الجرجانية  والفكر التشوميسكي، فانتابته حيرة في نهاية المطاف؛ لما وجد من تلاقي الأفكار بين الطرفين، مما أدى به  إلى الشك والبحث عن السبب، ففكّر في أنه ربما تأثر تشومسكي بـ”الجرجاني”، باطلاعه على كتابه عن طريق مستشرق يتقن العربية، وكذا أباه الذي ربما يترجم له، يقول في هذا الموقف: “لكنني أشير فقط إلى بعض القرائن التي تدل على التأثر دون النقل، فالذي بلغني عن تشومسكي أنّ أباه من رجال الدين اليهود الذين يعرفون العربية معرفة جيدة، ويعرف أنّ نحو اللغة العبرية قد تمت صياغته لأول مرة في الأندلس الإسلامية على غرار نحو العربية.. ومن هنا لابد أن يكون له إلمام بكتب النحو العربي”[4]، وإلى ذات النتائج ذهب “محمد حماسة عبداللطيف” وغيره من اللغويون وفق الأسباب التي طرحها “تمام حسان” سابقًا .

وهكذا يمكننا القول في نهاية المقال أن ما من قول إلا وله مستند أو قائل قبله، وله تمثلات في التاريخ، وذلك شأن العلوم.. فليس من الضروري أن يوجد المصطلح بالصورة النهائية التي استقر عليها الآن، فتوجد عديد من القضايا اللغوية والأدبية والفكرية في تراثنا ولكن ليست بالصورة النهائية التي تعرف بها الآن، ومن ذلك النظريات التي توصل لها تشومسكي، فمرحلة تشومسكي هي  ما تم الاستقرار عليه في تلك القضية، والمراحل الأولى هي مراحل التأسيس والبدء ، وهذه نقطة منهجية هامة في البحث والتنظير، وهذا بخلاف المنهج التفاعلي الذي تكلمنا عنه، فهذه سياق طبعي في تكوين الأشياء .


[1]  جاسم علي جاسم : تأثیر الخلیل بن أحمد الفراھيدي والجرجاني في نظریة تشومسكي، مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ع116، السنة29، 2009م، ص69.

[2]  جاسم علي جاسم : تأثیر الخلیل بن أحمد الفراھيدي والجرجاني في نظریة تشومسكي، مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ع116، السنة29، 2009م، ص70

[3]  راجع في ذلك ،عبده الراحجي :  “النحو العربي والدرس الحديث”1979م

[4]  وهيبة بن حدو :  نظرية تشومسكي وتمثلاتها في التراث النحوي العربي، مجلة رفوف-مخبر المخطوطات – جامعة أدرار- الجزائر المجلد: 10 / العدد: 01 ( جانفي 2022 )، ص159، نقلا عن تمام حسان، 2006م، ج2/ 343