قوله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) [الكهف: 77].

لم يقل: أتيا قرية. ولم يقل: استطعماهم!

استطعما: طلبا الطعام على سبيل الضيافة، لقوله في الآية: (فأبوا أن يُضَيّفوهما).

لم يقل:

– حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها.

– حتى إذا أتيا أهل قرية استطعماهم.

لو قيل: حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها، كان هذا مقبولاً في اللغة وخفيفًا على السمع. لكن ليس فيه قراءة. أرجو ألا يُفهم منه الاعتراض على الآية، فأنا بصدد بيان النكتة، ولست بصدد الاعتراض، معاذ الله. قد تجوز في اللغة أشياء يكون فيها قراءة، وقد لا يكون.

ولو قيل: حتى إذا أتيا أهل قرية استطعماهم، صارت الكلمة ثقيلة على السمع. ربما لهذا تم العدول عن (استطعماهم) إلى (استطعما أهلها). وهو قول بعض العلماء (انظر: الألوسي آخر المقال).

قد يقال: هناك كلمات ثقيلة في القرآن (كما ادّعى الألوسي)، وهذا صحيح ولكنه مرتبط بمناسبة، وهاهنا لا توجد مناسبة لكي يختار اللفظ ثقيلاً.

هذه المسألة تجاهلها أكثر المفسرين، ومن فسرها كالألوسي لم يخلُ تفسيره من إطالة وتكلف، واعترض عليه ابن عاشور.

أقوال المفسرين: كلّها تكلّف.

1 – الرازي:

لم قال: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) وكان من الواجب أن يقال: استطعما منهم، والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر:

ليت الغراب غداة ينعب دائما      كان الغراب مقطع الأوداج.

أقول:

قول الرازي: (استطعما منهم) فيه تكلف، لأن (استطعماهم) لا تعني بالضرورة أنهما استطعما الجميع!

2 – أبو حيان:

تكرر لفظ (أهل) على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد، وهو أنهما حين (أتيا أهل القرية) لم يأتيا جميع أهل القرية، إنما أتيا بعضهم، فلما قال: (استطعما)، احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه، فجيء بلفظ أهلها ليعمّ جميعهم، وأنهم يتبعونهم واحدًا واحدًا بالاستطعام، ولو كان التركيب: (استطعماهم) لكان عائدًا على البعض المأتي.

أقول: (أتيا أهل القرية) لا تعني بالضرورة: أتيا جميع أهل القرية.

ومن غير المعقول أنهما استطعما الجميع واحدًا واحدًا، لا سيما إذا كثر أهلها، والقرية تعني المدينة.

3 – الألوسي:

يجب فيه (ٱسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)، ولا يجوز: استطعماهم أصلاً، لخلوّ الجملة عن ضمير الموصوف!

لو قيل: استطعماهم تعين إرادة الأولين، فأتى بالظاهر إشعارًا بتأكيد العموم فيه، وأنهما لم يتركا أحدًا من أهلها حتى استطعماه وأبـى، ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار، حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعولعليه، حتى سمعت عن شخص أنه قال: إن العدول عن: استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل، وهو قول يُحكى ليردّ، فإن القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك، ومنه ما يأتي في الآية. ومن تمام الكلام فيما ذكر أن (استطعما) إن جعل جوابًا فهو متأخر عن الإتيان، وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة، وذكر تعريفًا وتنبيهًا على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير، فهذا ما فتح الله تعالى علي (…).

إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتى بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال: فلما أتيا قرية استطعما أهلها، فما الداعي إلى ذكر الأهل أولاً على هذا التقدير، وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم، وسألوا فمُنعوا، ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم، وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم، فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السلام غريبًا جدًا. لا يقال: ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرًا أو تجوزًا كما في قوله تعالى: (وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ) يوسف 82، لأنا نقول: إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات، ولمن فيه كأتيت أهل بغداد، فلو لم يذكر كان فيه تفويتًا للمقصود، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة.

4 – واختار الشيخ عز الدين علي الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن: استطعماهم إلى (ٱسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) للتحقير، وهو أحد (الصواب: إحدى) نكات إقامة الظاهر مقام الضمير، وبسط الكلام في ذلك نثرًا؛ وقال نظمًا:

سألت لماذا استطعما أهلها أتى          عن استطعماهم إن ذاك لشان

وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف          على سبب الرجحان منذ زمان

فهـاك جوابًـا رافعًا لنقابـــــــه                   يصــــير به المعنى كرأي عيان

إذا ما استوى الحالان في الحكم       رجح الضمير وأما حين يختلفان

بأن كان في التصريح إظهار حكمة      كرفعة شأن أو حقـــــارة جاني

كمثل أمير المؤمنين يقول ذا             وما نحن فيه صرحوا بأمــــــان

وهذا على الإيجاز والبسط جاء في     جوابـي منثورًا بحسن بيــــان

وذكر في النثر وجهًا آخر للعدول، وهو ما نقله السبكي وردّه، وقد ذكره أيضًا النيسابوري، وهو لعمري كما قال السبكي، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين: إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع، وهو وجه وجيه عند كل نبيْه، ومن ذلك قوله تعالى: (فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ) البقرة 59 الآية، ومثله كثير في الفصيح.

وقال بعضهم: إن الأهلين متغايران، فلذا جيء بهما معًا، وقولهم: إذا أعيد المذكور أولاً معرفة كان الثاني عين الأول غير مطّرد، وذلك لأن المراد بالأهل الأول: البعض، إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها، لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس، وبالأهل الثاني: الجميع، لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم، فلو جيء بالضمير لفُهم أنهما استطعما البعض.

وعكس بعضهم الأمر فقال: المراد بالأهل الأول: الجميع، ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم؛ وهو نظير إتيان البلد، وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه، وبالأهل الثاني: البعض، إذ سؤال فردٍ فردٍ، من كبار أهل القرية وصغارهم، وذكورهم وإناثهم، وأغنيائهم وفقرائهم، مستبعد جدًا، والخبر لا يدل عليه، ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال.

وقد روي عن أبـي هريرة، والله تعالى أعلم بصحة الخبر، أنه قال: أطعمتهما[1] امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال، فلم يطعموهما، فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم، فلذا جيء بالظاهر دون الضمير، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في «الرسالة».

وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتدّ بها، ولا يورد هذا على الأول، لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى.

واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم، ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية، ومن لم يحكم العادة يقول: إنهما عليهما السلام (أتيا)[2] الجميع وسألاهم[3]، لما أنهما على ما قيل قد مسّتهما الحاجة.

5 – ابن عاشور:

إظهار لفظ (أَهْلَهَا) دون الإتيان بضمير(هم)[4] بأن يقال: استطعماهم، لزيادة التصريح، تشنيعًا بهم في لؤمهم، إذ أبوا أن يضيفوهما. وذلك لؤم، لأنّ الضيافة كانت شائعة في الأمم، من عهد إبراهيم عليه السلام، وهي من المواساة المتبعة عند الناس. ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمرّ عليهم عابر السبيل، ويسألهم الضيافة، أو من أعدّ نفسه لذلك من كرام القبيلة، فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية. وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالاً عن نكتة هذا الإظهار في أبيات. وأجابه السبكي جوابًا طويلاً نثرًا ونظمًا بما لا يقنع، وقد ذكرهما الآلوسي.


[1]   في الأصل : أطعتهما، والصواب ما أثبته.

[2]  في الأصل (أتوا)، والصواب ما أثبته (أتيا)

[3]  في الأصل (وسألوهم)، والصواب ما أثبته

[4]   أقولجاء الكلام في تفسير ابن عاشور: ”دون الإتيان بضميرهم“! والصواب: ضمير (هم) كما كتبته أعلاه.