يتبادر إلى أذهان بعض الدعاة أن المطلوب هو تنفيذ الأوامر الإلهية حتى لو كان مجردا عن جميع الاتيكيتات من حسن الأسلوب والتعامل بأدب وروية وحكمة مع المخاطب. وأعتقد أن هذا خطأ فادح، واقرأ معي قول نبي الله إبراهيم عليه السلام لابنه ((فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يَٰبُنَىَّ إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ)). السؤال لماذا يستشير نبي الله إبراهيم ابنه في قضية إلهية “رؤيا الأنبياء وحي” أو “رؤية الأنبياء صدق”؟ هل استشاره ليعرف رأيه في أمر إلهي بالرفض أو بالقبول؟ ولماذا لا يمضي إبراهيم لتنفيذ الأمر الإلهي دون استشارة لابنه؟ هل يسأله عن رأيه في أمر ديني؟ وهل أصبح للرأي مدخل في الدين؟؟

أقول لعل أبا الأنبياء عليه السلام استخدم هذا الأسلوب لأربعة أسباب:

1- أن رؤيا الأنبياء وإن كانت وحيا أو صدقا، لكنها لا تمثل الوحي المنزل المتلو في صحف إبراهيم ولا في توراة موسى، ولا في إنجيل عيسى ولا في قرآن محمد صلى الله عليه وسلم. الرؤيا الأنبيائية نعم صحيحة وصدق لكنها ليست في قوة النصوص المنزلة التي يتعبد بها، والتي تعتبر قطعية في ثبوتها ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فمن هذا الباب قد يرى نبي الله إبراهيم عليه السلام أن مثل هذه الرؤيا بهذا الحجم “ذبح الابن النبي” يحتاج إلى استشارة وليس في ذلك مخالفة شرعية.

2- أو لعل هذه الرؤيا الإبراهيمية لم تكن أمرا وجوبيا مؤكدا، فالأمر الأصولي نوعان، الأمر الوجوبي، والأمر الندبي، فالوجوبي ما خلا من القرائن التي تصرفه عن الوجوب، والندبي ما جاء الأمر به على سبيل الندب، أو صاحب الأمر قرائن تصرفه عن الأمر الوجوبي فيوقعه في دائرة الندب. وبالنظر إلى الرؤية الإبراهيمة هذه نجد أنها كانت أقرب إلى الندب منه من الوجوب، فالقرآن قال ((إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ )) ولم يقل “إنى أمرت في المنام أن أذبحك”، كما لم يقل كذلك “إني أرى في المنام أن أذبحك”، فالقرآن قال “أني” وليس “أن”، فجاء على سبيل النص الإخباري وليس الإنشائي، فهو رأى نفسه في المنام أنه يذبح ابنه، ورأى واقعا في المنام أراد أن يطبقه في اليقظة، نعم إن رؤيا الأنبياء صدق ووحي، لكن مثل هذه الرؤيا الوقوعية الإخبارية لا ترقى إلى درجة الرؤيا الأمرية الإنشائية، فالأولى تبقى في دائرة المندوبات، أما الثانية فهي ترقى إلى دائرة الوجوبيات.

وإذا كان ذلك كذلك، جاز لإبراهيم طلب رأي ابنه في ذلك ما دام الأمر في دائرة المندوبات، ألا ترى أنه يحرم على المرأة صيام النفل وزوجها حاضر، لأن صيام النفل يضر بمصلحة الزوج في طلب الوطأ، وهكذا، فلما كان الذبح يضر بابنه، والأمر مندوب وليس بواجب، جاز له طلب رأيه واستشارته. كأن تقول لصاحبك الذي صليت معه الظهر في المسجد، وأنتم تريدون الذهاب إلى مكان معين، “ما رأيك تنتظرني لأصلي سنة الراتب ثم نذهب”.

3- قد يكون الأمر على سبيل الأمر الجازم الوجوبي، ونشم ذلك من قول ابنه له: (( قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ))-طبعا مع احتمال أن الابن كان يقصد الأمر الندبي دون الوجوبي-، وعلى كل، أقول: إنه حتى لو كان الأمر وجوبيا فلا مانع من استخدام مثل هذا الأسلوب لكسب ود الشخص وتلاطفه، وأن تريه بأن الأمر ليس بيدك، وتعطيه فرصة حتى يذعن هو لأمر الله وطاعته دون ترهيب ولا إكراه. مثل هذا كأن تقول لصديقك المدخن “ما رأيك لو تركت شرب الدخان“، أو شخص لا يصلي تقول له: “ما رأيك نذهب نصلي لله عز وجل”، وعليه فإن استخدام الأسلوب المناسب اللطيف مع المدعويين أمر مطلوب.

4- أن إبراهيم كان يسأل ابنه عن رأيه في الوقت المناسب لتنفيذ الأمر، والطريقة والأسلوب المناسب لفعله، فمتى يريحه الذبح وبأي أسلوب يريحه ؟ فيبجبيه الابن المنقاد لأمر الله بأن ينفذ الأمر في أي وقت وفي أي مكان يريد فينفذ أمر الله.

5- وأخيرا، قد يكون الأمر كله متعلقا بالعاطفة الأبوية، والحب والرأفة والرحمة والشعور الأبوي الإنساني الذي كان عند نبي الله إبراهيم تجاه ابنه، إنه فعلا سينفذ الأمر الإلهي ومستعد لذلك، لكنه إنسان وليس بحجر، يشعر ويحس وليس من الحيوانات والجمادات، إنه إنسان رؤوف رحيم، ومن هذا الباب فإنه يخاطب ابنه بأنه قد جاء أمر إلهي بذبحك وأنا أسألك عن رأيك حتى تدرك أن الأمر ليس بيدي، ولو كان بيدي لما خطر ذلك ببالي لما في قلبي من حب لك وشعور أبوي نحوك. فما ترى يا ابني الحبيب؟