يقوم الأطباء في وزارات الصحة في العالم بجهد مشكور غير منكور، وذلك من خلال الخدمات الصحية التي يقدمونها للناس من العناية والرعاية والعلاج، وترصد ميزانيات كثيرة للصحة في بلاد العالم  (ذكر الرقم)، ورغم ما ينفق على الصحة من أموال طائلة، لكنها تصب في جانب علاج المرضى، يعني يتعاملون بعد أن يقع المرض، غير أنه ندر أن تكون العناية بالصحة للوقاية من الوقوع في المرض، وفرق بين (علاج المرض)، وبين الوقاية من المرض..

ومن يتتبع تعاليم الإسلام خاصة في السنة النبوية، يجد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قدم للبشرية منهجا وقائيا؛ يقصد به حفظ البدن من الوقوع في المرض، وذلك من خلال التعاليم النبوية التي تتعلق بالصحة، خاصة من خلال العادات الصحية في السنة النبوية.

ولعظم وأهمية الصحة، جعل الفقهاء مقصد حفظ البدن هو المقصد الثاني من المقاصد الكبرى الخمسة بعد مقصد حفظ الدين.

وقد فهم الصحابة – رضوان الله عليهم- من صاحب الشرع، ومن خبرتهم في الحياة أن الوقاية هي الصحة،  فعن ابن أبي نجيح قال: سأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة: ما الطب؟ قال: الأزم -يعني: الحمية (رواه عبد الرزاق في “الأمالي” ص 101، وأبو عبيد في “غريب الحديث” 3/ 330).

1 – الوقاية في البيوت:

والمتتبع للسنة النبوية يجد أن هناك كما كبيرا من الأحاديث تحث على الطب الوقائي، كالبول في الأماكن التي لا تسبب أذى للإنسان، وعدم ترك المصابيح مضاءة عند النوم، وللأطباء تعليقات عليها، وبيان فوائدها، وتغطية الأواني وعدم تركها بلا غطاء، وإغلاق الأبواب بالليل، وكلها لها فوائد وقائية.

وفي ذلك المعنى ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله (5/ 82): عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يبولن أحدكم في الجحر، وإذا نمتم فأطفئوا السراج؛ فإن الفأرة تأخذ الفتيلة فتحرق أهل البيت، وأوكئوا الأسقية، وخمروا الشراب، وغلقوا الأبواب بالليل». هذا حديث صحيح.

وبين النبي صلى الله عليه وسلم علل أوامره وتعليماته، كما أخرج البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا استجنح الليل – أو كان جنح الليل – فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء، فخلوهم، وأغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئا» زاد في رواية: «فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا».

وفي أخرى «وأطفئوا المصابيح، فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة، فأحرقت أهل البيت».

وفي أخرى: «وخمروا الطعام والشراب».

قال همام: وأحسبه قال: «ولو بعود» أخرجه البخاري ومسلم.

ولمسلم «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا، ويذكر اسم الله، فليفعل فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم».

وفي رواية: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء».

وفي أخرى: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء».

زاد في رواية: قال الليث: «فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول».

وأخرج الموطأ رواية مسلم الأولى إلى قوله: «ولا يكشف إناء، وذكر الفويسقة، وإضرامها النار» وكذلك الترمذي.

وفي رواية أبي داود: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «أغلق بابك، واذكر اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك، ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله».

وله في أخرى بهذا الخبر، قال: – وليس بتمامه – وقال: «فإن الشيطان لا يفتح مغلقا، ولا يحل وكاء، ولا يكشف إناء، وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم، أو بيوتهم».

وله في أخرى قال: «واكفتوا صبيانكم عند العشاء – وفي أخرى: عند المساء – فإن للجن انتشارا وخطفة».

وفي رواية ذكرها رزين قال: «بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذا بفأرة تجر فتيلة، حتى وضعتها بين يديه على طرف الحصير، فأحرقته، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: إن هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم، فإن الشيطان يدل هذه على مثل هذا، فتحرق على أهل البيت متاعهم».   جامع الأصول، لابن الأثير (11/ 757).

2 – نظافة اليدين:

كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على نظافة اليدين، خاصة قد يعلق بها من روائح وبقايا الطعام.

أخرج أبو داود رحمه الله (10/ 331): عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «من نام وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه».

هذا حديث حسن على شرط مسلم.

قال المناوي في فيض القدير (6/ 92): (من بات) وفي رواية من نام (وفي يده غمر): ريح لحم أو دسمه أو وسخه زاد أبو داود ولم يغسله (فأصابه شيء) أي إيذاء من بعض الحشرات (فلا يلومن إلا نفسه) لتعرضه لما يؤذيه من الهوام بغير فائدة وذلك لأن الهوام وذوات السموم ربما تقصده في المنام لريح الطعام فتؤذيه .ا.هـ

3 – تكريم اليد اليمنى:

ومن الطب الوقائي أن لا يستعمل الإنسان يده اليمنى فيما قد يكون سببا في إصابته بالجراثيم والأوبئة، وفي ذلك أخرج البخاري- الفتح 10 (5630)، بسنده، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا شرب أحدكم فلا يتنفّس في الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه، وإذا تمسّح أحدكم فلا يتمسّح بيمينه) .

جاء في شرح صحيح البخارى لابن بطال (6/ 79):

قال المهلب: التنفس إنما نهى عنه عليه السلام كما نهى عن النفخ فى الطعام والشراب – والله أعلم – من أجل أنه لا يؤمن أن يقع فيه شىء من ريقه، فيعافه الطاعم له ويستقذر أكله؛ إذ كان التقذر فى باب الطعام والشراب، والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس، فنهاه عن ذلك؛ لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وإذا كان الإنسان يأكل أو يشرب وحده أو مع أهله أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئا مما يأكل منه، فلا بأس بالتنفس فى الإناء، كما فعل النبى مع عمر بن أبي سلمة أمره أن يأكل مما يليه، وكان هو عليه السلام، يتتبع الدباء فى الصحفة، علما منه أنه لا يقذر منه شىء عليه السلام، وكيف يظن ذلك وكان إذا تنخم تبادر أصحابه نخامته فدلكوا بها وجوههم، وكذلك فضل وضوئه، فهذا فرق بين فعل النبى وأمره غيره بالأكل مما يليه. ا.هـ

ومن تتبع تعاليم الإسلام كلها وجد الطب الوقائي ركيزة أساسية فيه، فالوضوء والغسل والصلاة والصوم وغيرها لها فوائد عظيمة في الطب الوقائي.

4 – الوقاية في الشرب:

كما بين النبي صلى الله عليه وسلم الوقاية في الشرب، كما عند البخاري- الفتح 10 (5625) واللفظ له. ومسلم (2023)، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن اختناث الأسقية، يعني: أن تكسر أفواهها فيشرب منها « وتأويل النهي عن ذلك أن الشرب من أفواهها ربما ينتنها فإن أدامة الشرب هكذا مما يغير ريحها وقيل: إنه لا يؤمن أن يكون فيها حية أو شيء من الحشرات، قال ابن الأثير: وقد جاء في حديث آخر إباحته، قال: ويحتمل أن يكون النهي خاصا بالسقاء الكبير دون الصغير.»

5 – الوقاية الروحية:

ولم يقف الطب الوقائي في الإسلام على الجانب البدني، بل تميز أنه جمع معه الوقاية الروحية بحسن التوجه إلى الله، وطلب الدعاء بالوقاية والنجاة، كما أخرج أحمد( 2/ 169) وقال الشيخ أحمد شاكر (1/ 83): إسناده صحيح، عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه ذكر الصّلاة يوما، فقال: «من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف» )

ومن ذلك ما أخرج الترمذي وأبو داود عن أبان بن عثمان – رحمه الله -: عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قال حين يصبح: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم – ثلاث مرات – لم تصبه في يومه فجاءة بلاء، ومن قالها حين يمسي لم تصبه فجاءة بلاء في ليلته، ثم ابتلي أبان بالفالج، فرأى رجلا حدثه بهذا الحديث ينظر إليه، فقال له: ما لك تنظر إلي؟ فوالله ما كذبت على عثمان، ولا كذب عثمان على رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، لكن نسيت اليوم [الذي] أصابني هذا، فلم أقله ليمضي الله قدره».

أخرجه الترمذي، وأبو داود. إلا أن في آخر حديث أبي داود: «ولكن اليوم الذي أصابني فيه [ما أصابني] غضبت، فنسيت أن أقولها» ، وقدم فيه ذكر المساء على الصباح، وأخرجه في رواية أخرى، ولم يذكر «الفالج»

ومنه أيضا: ما أخرج الترمذي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعذابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره، وكان عبد الله يلقنها من بلغ من أولاده، ومن لم يبلغ منهم، كتبها في صك، وعلقها في عنقه».

وغير ذلك مما هو مبثوث في كتب السنة، أو كتب الأذكار وأعمال اليوم والليلة.

لقد امتاز فقه الوقاية في الإسلام أنه فقه مستمد من الوحي الذي لا يخطئ، كما أنه جمع بين الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، وأنه خاطب العقل والروح معا.

ولعل المسلمين ينتبهون لفقه  الوقاية في حياتهم وينفعون به، وأن لا يقف الأمر عند الدراسات العليا والكتب والبحوث، بل يكون له تأثير في حياة الناس من خلال البرامج الصحية والعملية.