طرح التساؤلات منهج في الفكر الغربي المعاصر أسماه الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز “فلسفة السؤال”، فلا علم من دون سؤال، ومناهج البحث على اختلافها تجمع على أهمية السؤال وأنه جوهر البحث العلمي، فهو ضمان انضباط الفكر وعدم تطرقه إلى مسائل لا تمت للسؤال بصلة، وضمان ارتباطه بالواقع.

مقاصد السؤال القرآني وخصائصه

عني القرآن بالسؤال حيث دعا إلى التساؤل ورغب فيه، وتتنوع غايات السؤال ومقاصده في القرآن تنوعا كبيرا، فقد يقصد به دحض حجج المشككين فيه، ومن أمثلته دعوة كفار قريش أن يسألوا أهل الكتاب عن حقيقة الرسالات السماوية { فَسۡـَٔلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (النحل: 43)، ويقصد به إقامة مجتمع المعرفة من خلال الرجوع إلى أهل العلم والتخصص في كل علم وفن الذين اصطلح على تسميتهم {أهل الذكر} في السياق القرآني، و {أهل الخبرة} في السياق الفقهي.

ومن مقاصد السؤال أيضا بث الطمأنينة في النفس، ومن ذلك قوله تعالى لنبيه الكريم { فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّۢ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكَ} (البقرة : 94)، وسؤال إبراهيم {رب أرني كيف تحيي الموتى} (البقرة : 260) إذ السؤال ليس غرضه معرفة كيفية الإحياء، وإنما التثبت وحصول الطمأنينة القلبية من مشاهدة الإحياء عمليا.

ومن مقاصده طلب المعرفة، إذ تشير قصة موسى مع الخضر إلى أن السؤال هو الأداة الأولى من أدوات المعرفة، وليس الحفظ أو التلقين كما يظن البعض، وللسؤال شروط وآداب ينبغي مراعاتها ومنها وجوب التريث قبل طرح السؤال وقبل الخلوص إلى إجابات سريعة ربما تكون غير ناجزة أو مضللة.

ومن مقاصده التذكير بالمسئولية، والمسئولية الإنسانية على مستويين، مسئولية عن الأفعال والسلوكيات في حق الذات والآخرين، ومسئولية عن الحواس الخارجية مثل السمع والبصر والداخلية مثل القلب والفؤاد والعقل { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}.

ويتميز السؤال القرآني بخصائص عدة نذكر من بينها:

– الوضوح والإحكام، وذلك لأن أي التباس في صيغة السؤال ربما يقود إلى إجابة غير دقيقة.

-الإيجاز، إذ لوحظ أن السؤال القرآني مصاغ من بضع كلمات حتى وإن كان سؤالا من الأسئلة الأنطولوجية الكبرى.

-الشمول، فالسؤال القرآني يضم عالم الغيب وعالم الشهادة دون استبعاد لأحدهما على حساب الآخر لأن الوجود يتشكل منهما سوية فلا هو وجود مادي ولا وجود ميتافيزيقي وإنما يتضافر فيه المادي والغيبي.

-الواقعية، وتعني أن جميع الأسئلة القرآنية لها قابلية للبحث، وليس محض تصور عقلي وافتراضات ذهنية كما هو الحال مع الأسئلة الفلسفية، وليس أدل على ذلك من أن سؤال الكيفية الذي يبدأ بكيف، تكرر ما يربو عن ثمانين مرة.

– الحيوية، ويقصد بها أنها تساؤلات تتناول موضوعات وقضايا كبرى تشمل الحياة الإنسانية والأخروية مثل: كيفية الإنفاق، والحوادث التاريخية الكبرى، وحقيقة الروح.

الصيغ الاستفهامية: تحليل مضمون

جاء استعمال القرآن للصيغ الاستفهامية مئات المرات تم خلالها كافة الأدوات الاستفهامية، وهي: الهمزة، هل، فهل، متى، أين، كيف، من، لِمَ، كم، ما، ماذا، كيف، أفمن، أي، أنى.

وتتنوع الصيغ الاستفهامية في الاستعمال القرآني وهناك عدة صيغ؛ ننتخب من بينها الصيغ التالية:

1-صيغة (لئن سألتهم) : والجواب يكون عادة (ليقولن)، ووردت في سبعة مواضع قرآنية ومن أمثلتها (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله)، والاستعمال القرآني لها عادة ما يكون مع المشركين أو المنافقين، ويكون فيها كشف لما يدور في مجالسهم بعيدا عن المؤمنين، وفيها دليل على صدق الرسالة.

2-صيغة (سئل) : وهي صيغة شائعة وردت بتصريفات فعلية مختلفة في ستة عشر موضعا قرآنيا، وهي لا تختص بفئة معينة بل ربما نسبها الباري جل شأنه إلى نفسه من مثل قوله تعالى (لا يُسئل عما يفعل وهم يسئلون)، وقد يستخدمها البشر (فسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها).

3-صيغة (يسألونك) : وهي من أكثر الصيغ شيوعا، إذ تكررت 15 مرة، وهي تتصل بمظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما يعرض للناس من قضايا وآراء، وما يواجهونه من مشاكل وأزمات، وإذا ما قمنا بعملية تحليل مضمون لوجدناها تدور حول القضايا التالية:

  •  الأمور المتعلقة بعالم الغيب، مثل السؤال عن موعد قيام الساعة ( يسألونك عن الساعة).
  • حقيقة النفس الإنسانية، وماهية الروح (ويسألونك عن الروح).
  • الجوانب الاقتصادية والمالية، جُبل الإنسان على الشح والتقتير والقرآن جاء ليهذب هذا السلوك ومن أمثلته (ويسألونك ماذا ينفقون)، والإنفاق ليس قاصرا على الأفراد وإنما يشمل الإنفاق الحكومي وكيفية توزيع الموارد العامة، ومن أمثلته (يسألونك عن الأنفال) وهي الغنائم التي يحرزها المسلمون من قتال الأعداء، حيث حدد القرآن كيفية إنفاقها.
  • العلاقة بالآخر أو العلاقات الدولية، وهو يشمل فيما يشمل الصدام المسلح مع العدو ومتى يكون (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه).
  • الأوضاع الاجتماعية، عني القرآن بإصلاح الحياة الاجتماعية عبر دعم الفئات الضعيفة وأكد على أحقيتها بالرعاية والدعم، ومن ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن اليتامى).
  • الجوانب الصحية أو صحة الجسد الإنساني، وهي الأمور التي تخص صحة الفرد وسلامة المجتمع الجسدية (يسألونك عن المحيض).
  • الظواهر الكونية، تحيط بالإنسان ظواهر كونية من كل جانب، والقرآن يدعو إلى التفكر في ماهيتها وعلاقتها بالقدرة الإلهية، ومن أمثلتها قوله تعالى (ويسألونك عن الجبال) وقوله (يسألونك عن الأهلة).
  • الحوادث والشخصيات التاريخية، يحتاج فهم الواقع يحتاج إلى معرفة الخلفية التي تشكل من خلالها وكيف تطورت إشكالياته وتعقدت عبر الزمن، فضلا عن أن التاريخ معين الخبرة الإنسانية التي تشكلت عبر قرون ولابد من العودة إليه لاستخلاص العبر وتجنب مصير الأمم السالفة، ومن أمثلة هذا النوع من التساؤلات (ويسألونك عن ذي القرنين).
  • أسلوب الحياة وكيف يكون، وهو ما يتعلق بأسلوب الحياة ما يجوز فيها، وهو سؤال التحليل أو ما هو الحلال، ومن أمثلته (يسألونك ماذا أحل لهم).
  • الممارسات السلبية، وهو ما يتصل بالممارسات الإنسانية (الرذائل) ذات المردود السلبي على الأفراد والمجتمعات وهو سؤال التحريم أو المحرمات، ومن أمثلته (يسألونك عن الخمر والميسر).

وإذا ما نظرنا إلى هذه الموضوعات التي عالجها السؤال القرآني لوجدناها تعبر عن نسق معرفي متكامل، ورؤية شاملة للكون يتضافر فيها ما هو مادي مع ما هو معنوي ( الحيض أو الجسد/الروح)، ويتصل فيها عالم الغيب بعالم الشهادة (الساعة/الطيبات)، ويتكامل فيها ما هو فردي/شخصي مع ما هو مجتمعي (الإنفاق/ الأنفال)، وتتشابك فيها مشكلات الواقع مع الحقائق التاريخية (الخمر والميسر/ ذي القرنين)، ويرتبط فيها التوجيهات الأخلاقية مع التشريعات القانونية (العفو/القتال) ويلعب السؤال دور الفاعل الرئيس الذي يجمع بين المستويات المختلفة للوجود.

الجواب وخصائصه

يأتي الجواب القرآني في الغالب مطابقا للسؤال كما هو الحال مع تساؤلات صيغة يسألونك، إلا أنه في بعض الأحيان يكون السؤال بلا جواب وهو السؤال الذي يعبر عن الدهشة أو الذي ليس له إجابة نظرية كقوله تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).

وتتميز الإجابات القرآنية بخصائص تميزها عن غيرها من الإجابات، ومنها:

  1. الوضوح والمباشرة : وأعني به وضوح الجواب، وارتباطه الوثيق بموضوع السؤال وعدم الالتفاف حوله، وهو نتيجة منطقية لوضوح السؤال ودقته إذ لا يستطيع المرء أن يجيب إجابة دقيقة على سؤال ملتبس، ومن أمثلة الجواب الجلي قوله تعالى على لسان داود: (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
  2. الاتصال بالواقع: فقد استمد الجواب القرآني من واقع السائلين ومما يدور ويجري في حياتهم فإذا سأل الناس عن اليتامى تكون الإجابة متعلقة بإصلاح النظام الاجتماعي من خلال توجيه الدعم إلى فئاته الضعيفة النساء واليتامى.
  3. الإقناع العقلي : يتوخى الجواب القرآني دوما جانب الإقناع والتعليل المنطقي للأمور، ومن أمثلته قوله سبحانه (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما)، وهنا نجد القرآن يصرح أنهما لا يخلوان من نفع ولكن إثمهما وضررهما أكبر فيرجح الإثم على النفع.
  4. التقدير السليم للأمور: ويقصد به الدعوة إلى فحص الوقائع  ووزنها بميزان دقيق دون مبالغة أو تبخيس قبل التسرع في إطلاق الأحكام، وأوضح أمثلته قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل)، فعندما سأل المشركون عن الشهر الحرام وحرمة القتال فيه بين لهم القرآن الكريم صحة ما ذهبوا إليه، ولكنه أوضح لهم – في الوقت ذاته – أن هناك أمرا هو أعظم بكثير من الأمر الذي سألوا عنه وهو التعدي على حرمة المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وفتنتهم بالإخراج والرد إلى الكفر هو أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام.

وختاما يمكن القول إن السؤال القرآني يعبر عن رؤية كونية تجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وهو جزء من نظام معرفي قرآني يؤمن بفاعلية الإنسان وحقه في التساؤل والمعرفة.