عندما يبلغ الطفل الصغير مرحلة التمييز بين الأشياء، ويبدأ التعامل معها، يشكل القلم واسطة العقد ضمن سلة مقتنياته. يكتشف الطفل من خلال القلم والورقة البيضاء مبادئ التعبير عن نفسه خارج الكلام والصراخ أو البكاء، ويكون ذلك في الغالب إيذانا ببدء رحلة العمر مع “لساننا” الثاني الذي سيلازم بعضنا إلى الممات. هو وسيلتنا لنُعبّر به عن أنفسنا، لنشارك الآخرين أفراحنا ونُقاسمهم بعض همومنا وأحزاننا. أولم يقل الأدباء قديما: “القلم أحد اللسانين”؟

يتعلم الطفل عبر القلم وضع فواصل بين عالمه الداخلي، والعوالم الخارجية المحيطة به.. وكيف يبني جسورا بينها. يبدأ بـ”شخبط شخابيط” وينتهي بملاحم روائية وقوافٍ شعرية وإبداعات لا حصر لها، في فنون المعرفة المختلفة التي تُعمّر دهورا بعده وتُخلّد اسمه في ديوان الإنسانية.

يمسك الطفل القلم، ويرسم، ثم يُلوّن.. ولهذا ينتقل من الصفحة البيضاء إلى دفاتر التلوين، وبدل التعامل مع قلم رصاص أو حبر جاف ذي لون واحد، يقتني مجموعة أقلام مختلفة الألوان، يتعلم بها كيف يجعل من الصورة الصامتة لوحة فنية تتفجر فيها الحياة.

“فنّ التلوين” هذا، هو أول درس فعلي يتعلمه الطفل، وسيكون الدرس الأكثر تأثيرا في حياته، لأن طريقة تعامله مع الحياة ستتحدد حسب مهاراته في استعمال الألوان المختلفة، ومزجها، والتفاعل معها، وتوليد ألوان جديدة منها. ويكون تأثيره في الحياة ومن فيها بحسب قدرته على التخفيف من ثقل الأجسام المعتمة الباهتة التي تتحول بلمسات فنّية إلى حدائق غنّاء!

كما صفحات دفاتر التلوين التي يمسكها الطفل، تقابلنا الحياة.. تمنحنا فصولا مختلفة، من الخريف إلى الربيع، لكنها بلا لون. وسوف نقضي حياتِنا كلَّها، والطفل الصغير الذي بداخلنا يمسك الأقلام ليمنح ما يحيط به قبسا من الألوان. يُبدع بعضنا فيرسم لوحات مُشرقة، ويُخفق البعض الآخر فيزيد مشاهد الحياة أمامه قَتاما وسوادا.. ويُحجم آخرون، فيغادرون الحياة ولوحاتهم عذراء، لم يتغير فيها شيء!

يظن البعض أن الحياة تستقبلنا بألوان تختارها هي مُسبقا: تضع البعض في عالم “أوز” السحري، وتحمل آخرين إلى “جحيم” دانتي. لهذا لا يمكن للإنسان أن يهرب من قدَره الذي يطارده. والإيمان بالقدَر في مجتمعاتنا يُحوّل الإنسان – السلبي بذاته – إلى كائن هامد حياته كلها “سبات شتوي” “وعزاء كربلائي”، في حين أن الإيمان بالقدَر يمنح المؤمن قوة التغيير لأنه يُدرك أن الوجه الباطني للمقادير هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض.

المترفون الذين وُلدوا وهم يملكون كل شيء، يراهم من هو دونهم في عوالم وردية ويتمنى لو كان مكانهم. لكننا لا نُدرك ما لا يملكونه: الانبهار أمام كل جديد وجميل، الشعور بالعجز والضعف لعدم قدرتنا على اقتناء ما نريد، الطموح، الثورة على أنفسنا وتحقيق النجاح بأيدينا وكدّنا، قوة العزم على التغيّر والتغيير، والاستمتاع بما نجحنا في الحصول عليه لأننا نحن من أهديناه لأنفسنا، مكافأة على مسار مليء بالجدّ والتعب.

غير أن للحرمان والفاقة جوانبهما المظلمة أيضا: الخمول والاستسلام، اليأس القاتل والإحباط المُزمن، النقمة على الأقدار والسخط على من يفوقنا في المركز الاجتماعي.

كل هذا يقودنا إلى حقيقة ساطعة: الإنسان هو من يملك حقوق تلوين الحياة التي يعيشها، إن لم يملك القدرة على اختيار المشاهد واللوحات التي كان يود رسمها. وبحسب إتقانه لفنّ التلوين، الذي تعلّمه منذ الصغر، سيكون نجاحه في هذه الحياة، لا بكثرة ما اقتنى فيها، ولا بحجم ما ملكه، ولكن بمقدار “المتعة” و”السعادة” التي عاشها ومنحها للآخرين.. أي بمقدار “الألوان” التي طبعها على جدار الحياة.